كنت أقرأ في ترجمة (كانت) الفيلسوف الألماني الأشهر، أنه كان لجاره ديك، قد وضعه على السطح قبالة مكتبه، فكلما عمد إلى شغله صاح الديك، فأزعجه عن عمله، وقطع عليه فكره. فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه ويذبحه ويطعمه من لحمه، ودعا إلى ذلك صديقا له، وقعدا ينتظران الغداء، ويحدثه عن هذا الديك، وما كان يلقى منه من إزعاج، وما وجد بعده من لذة وراحة، ففكر في آمان، واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته، ولم يزعجه صياحه. . . .
. . . . ودخل الخادم بالطعام وقال معتذرا، إن الجار أبى أن يبيع ديكه، فاشترى غيره من السوق، فانتبه (كانت) فإذا الديك لا يزال يصيح!
فكرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شقي بهذا الديك لأنه كان يصيح، وسعد به وهو لا يزال يصيح، ما تبدل الواقع ما تبدل إلا نفسه، فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته، وقلت: ما دامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ وما دامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنا، إذ نمشي إليها من غير طريقها ونلجها من غير بابها؟ إننا نريد أن نذبح (الديك) لنستريح من صوته، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك، لأن الأرض مملوءة بالديكة، فلماذا لا نرفع الديكة من رؤوسنا إذا لم يمكن أن نرفعها من الأرض؟ لماذا لا نسد إذ أننا عنها إذا لم نقدر أن نسد أفواهها عنا؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفق ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهواءنا؟
أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل الأرض بسيرها على الأرض، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو، ولا أبواق السيارات وهي تسمع الموتى، وتوقظني همسة في جو الدار ضعيفة، وخطوة ثراها خفيفة. فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي. فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي، ولا صوت القطار وهو يهتز بي. فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك؟ وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا؟