ذلك لأن الحس كالنور، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب وما تكره، وأن حجبته حجب الأشياء عنك، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد أقوى وتسمع همس الدار وهو أضعف وأخفت، لأنك وجهت إلى هذا حسك، وأدخلته نفسك فسمعته على خفوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء، وأغفلت ذاك وأخرجته من نفسك فلم تسمعه على شدته، وخفي عنك كما تختفي في الظلام عظائم الموجودات فلماذا لا تصرف حسك عن كل مكروه؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك. ولكن ما أدخلته أنت برضاك، وقبلته باختيارك، كما يدخل الملك العدو قلعته بثغرة يتركها في سورها. فلماذا لا نقوي نفوسنا حتى نتخذ منها سورا دون الآلام؟
أيها السادة المستمعون:
إني أسمعتكم تتهامسون. تقولون:(فلسفة وأوهام). نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذيانا. وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص، ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام:
يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا ويغني فكأنه ما حمل شيئا، ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد فيتشاءم هذا ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة، فتسرع إليه ويسرع إليها. ويحكم على الرجلين بالموت، فيجزع هذا فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكم فكره، فإذا لم تنجه من الموت حيلته، لم يقتله قبل الموت وهمه. . .
وهذا بسمارك رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسلم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقة واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خل فكره، وساء تدبيره. وكان يوما في حرب فنظر فلم يجد معه إلا دخينه واحدة ولم يصل إلى غيرها، فاخرها إلى اللحظة التي يشتد عليها فيها الضيق ويعظم الهم، وبقى أسبوعا كاملا من غير دخان، صابرا عنه أملا بهذه الدخينة فلما رأى ذاك ترك التدخين، وانصرف عنه، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة. . .
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري، أصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعبانا،