للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[حيرة العقل]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أراني في هذه الأيام لا أكاد أعرف لي رأياً في شئ، لا لأني كففت عن التفكير فلعل الأمر على خلاف ذلك، وعسى أن أكون مسرفاً في النظر والتدبر وفي التماس الوجوه المختلفة للأمر الواحد الذي يعرض لي، وإنما ترجع حيرتي إلى أن إطالة النظر تكشف لي كل يوم عن جديد، وإلى أن تدبر النواحي المختلفة تجعل الجزم عسيراً، وتغري بالتردد، وتدفع إلى الشك، ومن طال وزنه للأمور وتقصيه لوجوهها وتأمله في البواعث والاحتمالات قل بته - وعمله أيضاً - لأن العمل يراد منه الغاية، فلابد من المجازفة والتعرض لعواقب الخطأ من بعض النواحي. وكل رجل عمل يضطر إلى الأخذ بالأرجح فيما يرى، وإلا تعذر عليه العمل بل استحال.

ورجال الحرب والسياسة والمال والتجارة ومن إليهم لا يسعهم إلا المخاطرة لأن غايتهم ليست الاهتداء إلى الحقيقة بل بلوغ الغرض. وكثيراً ما أراني اسأل نفسي لفرط ما أرى من ترددي وحيرتي، (هل أصبحت غير صالح للعمل؟) ولا يسرني ذلك فأروح أقول إن قدرة النفس على التكييف لا حد لها فيما أعرف، وإن العمل الذي يحوج إلى سرعة البت والجزم بلا تردد يضطر المرء إلى النزول على مقتضياته، وما أكثر ما تكون مواهب الإنسان كامنة، فلا يظهرها إلا انتقال الأحوال به، وأنا مع طول ترددي بين الآراء أراني مع ذلك أتصرف في مواقف العمل بسرعة وضبط وإحكام. وليس هذا من الثناء على النفس، ولكنه من الواقع الذي أعرفه بالتجربة

ومن طول حيرتي بين الآراء أصبحت أثق بخطأي ولا أثق بصوابي، وأقدر الضلال في كل ما انتهى إليه، ولا أطمئن إلى السداد فيه، ومن أجل ذلك لا أزال أراجع نفسي في كل قضية، وأنقض اليوم ما أبرمت بالأمس، ولولا أني معجل في حياتي لكان الأرجح أن أحجم عن المجاهرة برأي مخافة أن أكون قد أخطأت الصواب فيه. وأنا أعزي نفسي - لو أن في هذا عزا - بقول ويندل هولمز - على ما أذكر - إن الحقيقة (كزهر) النرد لها أكثر من وجه واحد، فإذا كنت قد رأيت وجهاً واحداً دون سائر الوجوه فإن لي العذر إذا كان هذا كل ما بدا لي، وأين في الناس من يرى وجوه الحقيقة كلها من كل جانب؟؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>