ولهذه الحيرة عللها المعقولة فأنا قد ورثت آراء، وأفدت من مخالطة الناس أراء، واكتسبت من الاطلاع آراء، وكنت أسلم بما ورثت واكتسبت، وأنا في سن التحصيل، وكنت ربما كابرت بالخلاف فيما أخذته من بيئتي، أما ما كنت أفيده من الكتب فكنت أتلقاه بالإكبار والإقرار، لأني لم أجد من يهديني أو يرشدني. فلا البيت كان لي فيه هذا المعين، ولا المدرسة كنت أجد فيها هذا المعلم الحاذق المرشد. وظل احترامي للكتب على حاله حتى احتجت في سنة أن أبيعها، وشق علي ذلك في أول الأمر، وكنت لا أكاد أطيق أن أدخل الغرفة التي كانت مرصوصة فيها. وظللت أياماً أحس كلما نظرت إلى الرفوف التي خلت مما كان عليها أني فقدت أقرب الناس إلي وأعزهم علي، وأشعر أني مشف على البكاء إذا لم أحول عيني عن هذه الرفوف الخالية. ولم يكن ما أتحسر عليه زينتها، وما أضعته فيها من مال خسرته بالبيع، وإنما كانت الحسرة على فقدان أساتذتي وإخواني. وبقيت بعد ذلك زمناً لا أمر بمكتبة عامة إلا أشحت بوجهي عنها من فرط الألم، وإلا أحسست أن يداً عنيفة تلوي أحشائي وتحاول أن تقتلعها. وكان من غرائب ما حدث أني لبثت أكثر من سنة لا أقتني شيئاً من الكتب كأنما زهدتني الحسرة على ما ضيعت في كل جديد غيره
ومن الغريب أن هذا هو نفس الإحساس الذي عانيته لما توفيت زوجتي، فقد ظللت سنوات لا أطيق أن أنظر إلى امرأة، ثم فتر الألم وخفت وطأته، كما هي العادة. وكنت في خلال ذلك قد احتجت أن أنظر بعيني وأفكر بعقلي فألفيتني أشك في كثير من مما كنت أسلم به ولا أكابر فيه بل ما كان لا يخطر لي أن أعترض عليه، وتغير الأمر، فبعد أن كنت أخذ الآراء من الكتب أو الناس، صرت آخذها من الحياة بلا واسطة، وأعرضها على عقلي بلا مؤثر فاعتدت الاستقلال في النظر، والحرية في التفكير، وخلا تفكيري وإحساسي شيئاً فشيئاً من تأثير الكتب، وسواها، وبرزت نفسي بعد طول التضاؤل؛ ثم أخذت أروض نفسي على التماس الجوانب الأخرى التي تخفى في العادة، فصارت وجوه الحقيقة تتعدد فيما أرى، وألفت ذلك حتى صار هذا ديدني مع الناس، فإذا رأيت من صاحب لي ما يسوءني حاولت أن أضع نفسي في مكانه وأن أنظر إلى الأمر بعينه هو، وأن أتمثل بواعثه واحساساته إلى آخر ذلك، فينتهي الأمر في الأغلب بأن أعذر ولا ألوم، ويذهب الألم أو الغضب أو غير ذلك مما أثار صاحبي بما يصنع.