بل ترقيت من هذا إلى ما هو أرفع، فصار نظري إلى الناس نظراً إلى مادة تدرس لا إلى مخلوقات تعاشر ويصدر عنها ما يسوء أو يسر، ولا شك أن الفعل الحميد يحسن وقعه في النفس، وأن السوء يؤلم أو يغضب، وليس يسعني إلا أن أتلقى ما يكون من الناس بالحمد أو الذم، وبالرضى أو السخط؛ ولست بإنسان إذا لم يكن هذا شأني، ولكني أعني أني لا أعجل بالذم والسخط ولا أندفع مع أول الخاطر، بل أراجع نفسي وأجيل عيني في الأمر لأراه من ناحية غير الناحية التي طالعتني في البداية، فيتحول الموضوع من عمل أو قول باعث على الرضا أو الامتعاض إلى مادة للتفكير، وتذهب عنه الصبغة الشخصية، فكأني أمتحن نظرية ولست أزن صنع إنسان أساء أو أحسن.
ويخيل إلى الآن أني أعيش في معمل، فكل ما ألقاه في الحياة من خير وشر، وما اجدني أو أجد سواي فيه، من جد ولهو، أتناوله بالتحليل والبحث لأستخلص منه ما يتيسر لي استخلاصه من الحقائق، ثم أروح أقيسه إلى تجاربي الأخرى وأقارن وأقابل، ولا أزال أفعل ذلك حتى يهدني التعب، وقلما أهتدي، وكثيراً ما أضل، ولكني لا أسأم ولا أضجر لأن هذا صار متعتي النفسية التي لا أعدل بها متع الدنيا، بعد أن وجدت نفسي، وعثرت عليها تحت طبقات الكتب التي بعتها والحمد لله على ما كنت أتوجع وأذم الدنيا من أجله، فلولا أني بعت هذه الكتب لما وجدت نفسي، ولكان الأرجح أن أظل كالذي يعبد أصناماً.
والشك حيرة ولكنه حرية، وسعة الأفق خير من ضيقه، على الرغم من العناء الذي يكابده المرء من إرسال العين وإدارتها في النواحي الخفية أو البعيدة، وإنه لعذاب، وإن جدواه لقليلة، بالقياس إلى الجهد الذي يبذل فيه، ولكنه خير وأمتع من التحجر الذي يؤدي إليه التسليم، بلا نظر، وحسبك من متعته أنه يريك كل يوم جديداً، وقد يكون ما تهتدي إليه وتحسبه جديداً، قديماً جداً في الحقيقة ولكن المتعة في الجهد نفسه لا في النتيجة، والشأن في هذا كالشأن في الألعاب الرياضية فإن الغاية منها ليست الغلبة أو التفوق أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وإنما العبرة فيها بما تفيده من التدريب وما تكسبه بفضل الجهد الذي تنفقه فيها، ولذتها في مزاولتها لا فيما تنتهي به من الفوز وإن كان للفوز قيمته ومزيته، ولكنه ليس كل ما تزاول الألعاب من أجله
ومتى صار كل شيء مادة للدرس والبحث فقد صارت الحياة أوسع وأرحب، وصار المرء