كأنه يحلق فوقها وإن كان يخوضها ويعانيها، وهذا ما أروض عليه نفسي الآن أن أكابد الحياة والناس، وأن يسعني مع ذلك أن أقف منها ومنهم موقف الناظر المتفرج، فكأني اثنان لا واحد، أحدهما يعيش ويجرب، ويسعد ويشقى، ويسر ويحزن، ويجد ويهزل، ويفعل ما يفعل الناس غيره؛ وثانيهما يتلقى هذه التجارب وينشرها أمامه، ويعرضها على عقله، ويقارنها ويقابلها، ويفحصها ويضم المتشاكل منها بعضه إلى بعض، ويجمع ما يمكن أن يأتلف، ويعمل خياله فيما يراه ناقصاً ليملأ الفراغ ويسد الثغرة، ويصنع على العموم ما يصنع الكيميائي في معمله الذي يجري فيه تجاربه، ولا يتأثر بالواقع، ولا يعنيه ما عانى منه، وهذا الازدواج عسير ولا شك، ولست أطمع أن أبلغ منه الغاية وأوفي على الأمد، ولكني أطمع أن أوفق في بابه إلى الكفاية مع المواظبة والصبر، ويطمعني في النجاح أن كل إنسان له أكثر من شخصية واحدة وإن كان لا يدري ذلك.
ويثقل على نفسي خاطر واحد يكاد يصدني عن المواظبة، هو ما جدوى ذلك كله؟. . ما آخر هذا العناء الذي أراه باطلا؟. آخر ذلك كله معروف. وهل ثم من آخر سوى الفناء؟. ولكني أعود فأقول لنفسي إن هذا الآخر لا آخر سواه، سواء أبذل المرء الجهد، أم قعد عنه وضن به، فلا فائدة من التقصير، ولا ضير من السعي. والحياة أن تحيا، لا أن تجمد وتركد وتأسن. أما الجدوى فلماذا أعذب نفسي بالسؤال عنها؟ وما جدوى أي شيء في الحياة؟. إن كل ما أعرفه أني موجود، وأني وهبت قدرة على الإحساس والتفكير، فكيف أعطل هذه المواهب وأبطل علمها؟. وكيف يمكن أن أنعم بالوجود وأتمتع بالشعور به وأنا أعطل ما أعطيت؟ ويعرف الجدوى من أعطاني الحياة، فلندع ذلك له فهو أعرف به.