للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الرافعي بعد عام]

للأستاذ محمد سعيد العريان

في صباح الاثنين ١٠ مايو سنة ١٩٣٧ نعي المرحوم مصطفى صادق الرافعي إلى أدباء العربية، فجأة وبغير إنذار؛ فسكت القارئ وتلفت السامع، وتغشى السامرين من أهل الأدب سكون ووحشة وانقباض

وطالت فترة الصمت، والسامرون في غشيتهم لا ينطقون، إلا نظرات شاردة، وخواطر تصطرع وتموج، وذكريات تنبعث محرقة لاذعة، تذكر بما كان وتنبه إلى ما ينبغي أن يكون. . .

وهمس هامس: (يرحمه الله! لقد كان رجلاً للدين وللعربية هيهات أن تجد بديلاً منه أو ينقضي زمان من عمر التاريخ!)

ثم عاد الصمت، وعاد السكون، إلا النظرات الشاردة، والخواطر المائجة، والذكريات والأماني. . .

وهتف هاتف في جلال الصمت وفي وحشة السكون: (أن للفقيد لحقاً على اللغة، وحقاً على المسلمين، لا يجزئ فيهما أن نقول: يرحمه الله!)

وتدانت الرءوس، وتجاوبت النظرات، وانثالت الأفكار، وتزاحمت الأماني؛ ثم لم يلبث أن عاد الصمت، وعم السكون!

ثم عاد القارئ يقرأ، وأنصت السامع يسمع، وانتحى اثنان يداولان الرأي في شأن من شئون الأدب، وتماسك اثنان يفاضلان بين الجديد والقديم؛ وغامت في سماء الندى غائمة، وانعقدت على رءوس السامرين عجاجة، وضج المكان كسالف عهده، واختلطت الأصوات فما يبين صوت من صوت، واشتغل كل بما هو فيه. . .

وصاح صائح في نبرة اليائس المحزون: (ويحكم يا بني عدنان! لقد شغلتكم دنياكم عن الوفاء، وفتنتكم الحياة عن ذكر الموت! لقد كان هنا إنسان منكم، وإنه لأرفعكم صوتاً، وأبلغكم بياناً، وأبعدكم غاية ومدى؛ فهلا ذكره منك إنسان. . .)

وبرقت العيون، واختلجت الشفاه، واهتزت الرءوس، وانبعث صوت السامرين يحوقل ويسترجع في همس خافت، وقال قائلهم: (يرحمه الله! لقد كان. . .!)

<<  <  ج:
ص:  >  >>