خضع الوالي (فاضل باشا) لإرادة عبد الحميد جبار بني عثمان وأغلق مسرح القباني ومنعه عن العمل على كره منه، ولو توانى وقتئذ في تنفيذ الإرادة السنية، لكان طعمة للأسماك في بحر مرمرة مقبرة الأحرار السلبيين. . . ففرح خصومه الذين كان على أيديهم هذا الصغر، وجزع عليه عشاقه وعارفو فضله وهم الأغلبية الساحقة في البلاد، ولكنها إرادة الجبار المجتثة من إرادة الله. فلم يجرؤ أحد على ردها. وما كان علماء دمشق جميعهم راضين عن إقفال هذا المسرح، لأنهم كانوا يرونه مهذباً للأخلاق معواناً على الوعظ والإرشاد، وبث الأخلاق الفاضلة وتجنب الرذيلة، حتى أن شيوخ القباني الذين كانوا ينكرون عليه هذه النزعة في مطلع حياته إضراب المفتي الشيخ محمود حمزة ذي النزعة الصوفية، والشيخ واعظ السجدة وكبار العلماء المنقضين، كانوا لا يتورعون عن حضور مجالسه ومشاهدة رواياته الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية المأخوذة من صور حياة البيئة التي ولد فيها ودرج في أفيائها، لأنهم ما كانوا ليروا فيها من الأمور المحرمة ما يخالف مبادئهم. أما الذين كانوا يناوئونه من أرباب العمائم الذين اتخذوا من هذه (الخرقة) التي تستر رءوسهم الفارغة وسيلة للتخلص من الخدمة العسكرية في ذلك العهد. . وهم ليسو على شيء من العلم، ولقد لاقى القباني من جور هذه الفئة وعثوها وفتنتها وشغبها ما زهده في الحياة وجعله يقيم في منزله معتزلاً الناس لا يرى أحداً ولا يراه أحد. .
ولقد طال اعتزاله الناس والبعد عنهم حتى كادوا ينسونه، وإذا ما فكر مفكر منهم فيه خاف جفوة السلطان وغضبه. . . وكان هؤلاء الخصوم المرتزقون المتكسون الذين طالما فادوا من أعطيات صاحبهم ومنحه ومبراته يغتنمون فرصة جور سلطانه وكلب زمانه فيركبونه بالشغب والإزعاج كلما أبصروه على سبيل المصادفة في طريقهم حتى أنهم كانوا يتبعونه الصبية المأجورين لهذه الغاية فيترسمون خطاه، ويسمعونه من المدائح (والقريديات)