كثيراً ما يخطئ المخادع المحتال إذا حسب أن الناس قد انخدعوا بمكره، وكلما كان نصيب المخادع من الذكاء أقل كان اعتقاده في قدرته على خدع الناس أعظم فلا يتخذ في وسائل خداعه من الأساليب ما يحتاط به لفطنة الناس إلى خداعه
أما المخادع الذكي فإنه يفطن إلى أن الناس كثيراً ما يتظاهرون بالانخداع ويدعونه أما لكي يعرفوا غاية المخادع ومأربه، وأما لأن لهم لذة في أن يخدعوا المخادع وأن يضحكوا منه في سرهم، وأما لأن لهم مأرباً لا ينالونه منه إلا بإظهار الانخداع له. ومن أجل ذلك ترى المخادع الذكي يحاول أن يستفيد من ادعائهم الانخداع قدر ما كان يستفيد لو أنهم انخدعوا حقيقة. والقدرة على الاستفادة من ادعاء الناس الانخداع هي سر النجاح في الحياة، وليست بمستطاعة لكل إنسان. والحياة في كل عمل أو مظهر أو رأي أو مطلب ومكسب وفي كل حاجة من حاجاتها يوجد يجانب ما بها من الصدق شيء من الخداع والانخداع وادعاء الانخداع، وهذه هي أقانيم الحياة الثلاثة أو ثالوثها المقدس
وقد تدرك الحيرة الشاب الذي يزاول الخداع في الحياة في أول عهده بالفطنة لما يتطلبه النجاح من الخداع، فإنه قد يبدأ في خداع إنسان فإذا بذلك الإنسان يحاول أن يخدعه بأن يدعي أنه انخدع به حقيقة. وهذا يكون كالنشال الذي يقابل إنساناً يتوسم فيه السذاجة وهو لا يدري أنه نشال مثله فيسلم عليه بيد ويمد اليد الأخرى بخفة إلى ثياب ذلك الإنسان يبحث بها عن حافظة نقوده، فإذا به يشعر أن يد ذلك الإنسان الأخرى تبحث عن حافظة نقوده هو، فتدركه الحيرة ويكاد لا يعرف أيهما النشال
وهذا يذكرني بما جاء في كتاب الكامل للمبرد عن أخذ البيعة بالخلافة ليزيد بن معاوية، فقد أطنب الناس في مدحه وأسرفوا إسرافاً جعل يزيد، وقد كان ذكياً، يعرف أنهم غير منخدعين بصفات المدح التي وصفوه بها وهي ليست من صفاته، وأدرك أن لهم مأرباً في ادعاء الانخداع بخلقه وصفات نفسه، فالتفت إلى أبيه معاوية وقال: يا أبي هل نخدع الناس أم هم الذين يخدعوننا؟ فقال له معاوية: يا بني، إنك إذا أردت أن تخدع إنساناً فَتَخادَع لك حتى تنال منه ما تريد فقد خدعته. أي أن ادعاء الناس الانخداع وأن كان باطلاً فهو