وانخداعهم سيان مادام المرء ينال منهم ما يريد. وهذه حكمة من معاوية تدل على أنه كان بصيراً بالنفس الإنسانية ومسالكها في الحياة.
وهي حقيقة تُحسُّ في كل مجلس من مجالس الناس، وفي كل بيئة. فهي ليست بالأمر الصعب إدراكه. بل لولا ادعاء كل معاشر أنه انخدع بمعاشره في أمور الحياة ما طابت الحياة. ومن أجل ذلك لا يمقت الناس أحداً قدر مقتهم الرجل الذي يريد أن يرفع غطاء الرياء عن الحياة، ويختلقون له أسباباً يسوِّغون بها مقتهم. وكأن لسان حالهم يقول له: دعنا نخادعك وخادعنا أنت أيضاً كما نخادعك، وادَّع أنك انخدعت بنا، ودعنا ندَّعي أننا انخدعنا بك. فإن من الإنصاف، أو من الذوق، أو من الرحمة أن يدَّعي كل عشير أنه انخدع بعشيره ما دامت النفوس لا تستطيع الحياة إلا على هذه الأخلاق، ولا تستطيع أن تغيرها. وكأنما يقول لسان حالهم أيضاً: إن تبادل ادِّعاء الانخداع مَثلهُ مَثلُ من يعطى هدية، ويأخذ هدية في قدر قيمتها. ومطالب الحياة لا تنال إلا على هذا النمط. أما الذي يريد من الناس أن ينخدعوا له ويغضب إذا اتضح له أنهم لم ينخدعوا، بل يدعون الانخداع، ويعد ادعاءهم الانخداع له عملة زائفة لا يقبلها، ويطلب منهم العملة غير الزائفة، أي انخداعهم الحقيقي؛ ثم هو لا يعطيهم لا انخداعاً ولا ادعاء للانخداع، فمَثلهُ مَثلُ من تقدم له هدية فيغضب إذا لم يُعط أعظم منها، وهو لا يُعطى مثلها.
وينبغي للإنسان إذا ادَّعى الانخداع لعشير أو رئيس أو مرءوس أو عميل أن يلازم الحذر من أن ينقلب ادعاؤه الانخداع انخداعاً حقيقياً؛ فيكون كمن يرى لصّاً في منزله فيدَّعي النوم حتى يجد من اللص غفلة ليتمكن منه، فإذا بادعائه النوم قد صار نوماً، فيغط في النوم حتى يأخذ اللص كل ما يريد من البيت ويتركه، وصاحبه قد ادعى النوم حتى نام.
وهذا أيضاً شبيه بمن يريد أن يحتال على إنسان فيقدم له قطعة من الذهب ويدعي أنه وجد كنزاً كي يخدع ذلك الإنسان، ويسلبه ماله، فيدعي ذلك الإنسان السذاجة وأنه انخدع، ويأخذ القطعة كي يسأل عن قيمتها ثم لا يعود.
وهو أيضاً شبيه بصاحب الورق المقامر على الورق المقلوب من ورق اللعب، يدعي الخسارة ويعطي اللاعب جنيهاً كي يستدرجه ويسلبه ماله فيدعي اللاعب أنه ساذج، ويظهر رغبته في استئناف اللعب، والقمار، ويستأذن في قضاء حاجة ضرورية من حاجات الجسم