للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من مذكرات ابن أبي ربيعة]

جريرة ميعاد

للأستاذ محمود محمد شاكر

(قال عمر ابن أبي ربيعة. . .):

ركتني الحمى ثلاثاً حتى ظننت أن الله قد كتب على أن أذوق حظي من نار الدنيا قبل أن أرد على نار الآخرة. وكنت أجد مسها كلذع الجمرات على الجلد الحي، وأجدني كالذي وضع بين فكيه ضرساً من جبل فهو يجرشه جرش الرحى، وظللت أهذي وابن أبي عتيق يتلقف عني ما كنت أسر دونه، حتى إذا فصرت عني وثاب إلى عقلي قال ابن أبي عتيق: ويلك يا عمر! والله لقد فضحتها وهتكت عنها سترها؛ أما والله لو قد كنت أخبرتني قبل الساعة لاحتلت لها ولوقيتها مما عرضتها له. قلت: ويبك يا ابن أبي عتيق! من تعني؟ قال: من أعني؟ وأنت مازلت منذ الساعة تهذي باسمها غير معجم! إنها الثريا واليوم ميعادها، ولقد مضى من الليل أكثره وما بقى منه إلا حشاشة هالك!

ووجم الرجل واعتراني من الهم ما حبب إلى الحمى أن تكون خامرتني وساورتني قضت علي، وطفقت أنظر بعيني في بقايا الليل نظرة الثكلى ترى في حواشي الدجى طيف ولدها وواحدها. وتمضي الساعات علي كأنما تطأني بأقدم غلاظ شداد لم تدع لي عضواً إلا رضته. وابن أبي عتيق يذهب ويجئ كأنما أصابه مس فهو يرميني بعينه صامتاً يتحزن لما يرهب من فجاءات القدر بي وبها. ثم أقبل على يقول: خبرني يا عمر أين واعدتها من دارك هذه؟ فوالله لكأنما ألقى في سمعي لهباً يتضرم، فلم أسمع ولم أبصر ودارت بي الأرض، فما أدري بم أجيب، فلقد واعدتها منزلاً كنت أحتفي به لميعادها، قد استودعته سري وسرها، فما أدري ما فعل به أهل الدار، وقد ربضت بي الحمى بمنأى عنه. ولا والله ما شعرت أن الفجر قد صدع حتى سمعت الأذان كأنه ينعى إلي بعض نفسي فما تماسكت أن أنتحب، وابتدر إلى صاحبي يكفكف غرب أحزاني. وقال: خفض عليك يا عمر، فإن هذا يهيضك إلى ما بك. وما تدري لعل الله يحدث بعد عسر يسرا. قم إلى وضوئك أيها الرجل، واستقبل بوجهك هذه البنية، وادع الله جاهداً أن يستر ما هتكت، فإنهن النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه

<<  <  ج:
ص:  >  >>