خرجت من بيتي في صباح يوم، ومعي - في جيبي - ثلاثون قريشاً ليس إلا. . . وقالت لي نفسي، وأنا أضع الطربوش على رأسي بيد، وأفتح الباب بيد:
(إنك يا هذا ذاهب إلى عملك فعائد منه إلى البيت لتتغذى، فما حاجتك إلى أكثر من هذا القدر؟ اقنع به، فان امتلاء اليد يغري بالأنفاق، وكفك كالغربال - كثيرة الخروق، وواسعتها جدا - ولو رزقت مال قارون لأتيت عليه كله في بعض يوم، فأنت والله أحق الناس بالحجر!)
فوقفت مغيظاً، فما يليق أن تصبحني نفسي بمثل هذا الكلام القبيح. وكيف بالله أؤدي عملي إذا كنت أسمع مثل هذا التأنيب على الريق؟ وقلت لأزجرها عن هذا السلوك المعيب:
(بدأنا؟ يا فتاح يا عليم! ألم أنهك عن هذا ألف مرة!)
فراحت تكابر وتقول:(وهل قلت إلا إنك مسرف؟)
فصحت بها من الضجر:(مسرف كيف، يل ستي؟ وهل ما أكسب يكفيني حتى أعد مسرفاً؟)
قالت:(إنه لا يكفيك لأنك مسرف. . . . مخروق الكف، وفي دون ما تكسب فوق الكفاية)
قلت:(كلام فارغ. . . ولعب بالألفاظ. . . . هذه يدي ليس فيها خرق واحد، وإني لأحب المال حباً جماً، وأحاول أن أخزنه وأكنزه، ولكن ماذا أصنع؟ كلما دخلت البيت قالوا هات. . . هات. . ولست أسمع وانا في البيت إلا قولهم (هات. . هات!) لا أحد يقول (خذ!) كلا. . هات صابوناً. . . هات بناً. . . هات أحذية وطرابيش. . . كأني مصلحة تموين. . . حتى وأنا نائم أسمع هاتفاً يقول لي:(هات) فاستيقظ مذعوراً. . . وإذا لم أذهب إلى البيت - أعني إذا فرت منه - فلا مفر من الانفاق في حيثما أكون. . . . لا أحد يقبل أن يعطيني شيئاً بالصلاة على النبي. . . كلا. . . لم تبق في الدنيا مروءة ولا كرم ولا تقوى ولا. . . . .)
وأمسكت، فقد رأيت أحد الجيران يرقي في السلم، فخفت إذا سمعني أتكلم أن يحسبني مجنوناً، ولم أر أحداً غيري يحادث نفسه، فيظهر أنهم لا نفوس لهم. . . أعني أن نفوسهم