للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من صور العباقرة]

هانيبال

بقلم حسين مؤنس

لنكن على حذر حين نلتمس أخبار هانيبال، فهذا رجل وكل أمره لأنصاف خصومه، وترك تراثه في رعاية أشد الناس عداوةً له، وتولى تقديمه إلى الناس أحفل الناس ببغضه؛ فهو مظلوم من بوليبيوس، مغضوب عليه من تيت ليف، مهضوم الحق عند الكثرة الغالبة من رواة عصره وقضاة زمانه، ولكنه برغم هذا كله بارز لا تحتاج عظمته إلى البينة، ظاهر لا يعوز عبقريته البرهان؛ وإن الشهادة له لتبدر من الخصم حين يتخونه الحذر، وإن فضله على أعدائه لتقوم عليه البينات والحقائق وإن أعوزته الألفاظ والعبارات؛ وهذا بوليبيوس يتحدث عن آل سيببو فيطيل الحديث، ويكون قصارى ما يتأنق فيه من دلائل نبوغهم أنهم أخذوا فنون الحرب عن هانيبال، وأن أشهرهم المعروف بالأفريقي أخذ عنه وتفطن لأساليبه وحاربه بها في زاما. ولعل سبب هذه الخصومة هو أن الرجال كان شرقياً، لا هو روماني ولا إغريقي، وإنما هو فينيقي عريق، وكانت الخصومة مشبوبة في ذلك العصر بين الشرق والغرب، وكان الزمان قد استدار وصار اليوم للغرب، ورفرفت راياته وخفقت بنوده، حملها الإسكندر وخلفاؤه زماناً ثم تركوها للرومان، وكان الفينيقيون قد ضاقت بهم الأرض في المشرق فالتمسوا الرزق في المغرب، وأقاموا المراكز والمدن على شواطئ أفريقية وإسبانيا وصقلية وجنوبي إيطاليا وفرنسا، فلما نهض الرومان وجدوا الفينيقيين في طريقهم أينما ساروا، وكان مركز قيادتهم قد أنتقل من صور في المشرق إلى قرطاجنة في المغرب، ومن هنا كانت الخصومة بين روما وقرطاجنة، ومن هنا كان تعصب مؤرخي الرومان على هانيبال، ومن هنا كانت ضيعة قضيته عند القضاة؛ فلنلتمس أخباره في حذر. . . ولنحاول أن نشهده عن كثب، وأن نفضي إليه ونصاحبه حياته الحافلة بالأحداث، الخصبة بالوقائع والبيانات.

ها هو ذا في مجلسه على شاطئ الرون ينظر إلى جيشه الكبير يعبر النهر صفاً طويلاً وقد طال به الجلوس وطال به الانصراف إلى هذا المشهد حتى لا يدري أهذا مطلع النهار أم مقبل الليل؛ وكيف له التمييز وهذه أيام ثلاثة بلياليها تقضت وهو في مجلسه هذا شاخصاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>