إلى أجناده وفرسانه وقبيلته وهي تعبر النهر على مهل؟. . وأين له الراحة أو الانصراف عن التفكير وهو يعلم أن الرومان قد علموا بأمره وأنهم ساعون في أثره مرسلون قوادهم خفافاً للحاق به والقضاء عليه؟. وهذه عيونه تنبئه بأن مارسلوسن ماض في الطريق إليه، وإنه ليخشى ذلك كثيراً، إذ كيف تكون العاقبة لو لحق به الرومان وهو يعبر النهر؟. إذاً لقضوا عليه في يسر وهينة. ثم هذه عيونه تنهى إليه أن آل سيببو يثيرون عليه النافو ويقيمون عليه قيامة الشعب. فإذا متع الضحى فقد أقبل عليه رئيس فرسانه ينبئه بأن الجيش قد فرغ من العبور وأنه لم تبق في الضفة الأخرى إلا شراذم من المشاة وأشتات من المؤن التي لا يؤذي ضياعها. هناك ينهض الرجل الذي أجهده الإعياء وثقلت عليه قلة النوم، ويأوي إلى فسطاطه. . . ويطلب النوم فيسرع إليه النعاس. . . ولكنه على رغم ذلك مضطرب ما يزال. . . وأن الذكريات لتسعى إليه في الحلم فتروعه.
هذا هو أبوه هملكار يخطو إليه رهيباً جليلاً. . . يذكره بعهده الذي قطعه على نفسه وهو أبن سنوات تسع، وهذا صوت الصبي الصغير يتردد على سمعه واضحاً بيناً، إنه يقسم أن يكون عدواً لدوداً لروما إلى الأبد.
وها هو ذا يرى نفسه صبياً وفتى يافعاً، ثم رجلاً في مداخل الرجولة، إنه ليمضي الوقت في قفار إسبانيا ووهادها، لم ينصرف إلى شيء مما ينصرف إليه الشبان، ولم يترك لنفسه فرصة للراحة أو الدعة، وإنما أشتد على نفسه عشرين سنة كاملة حتى أوفى على الثلاثين. . . حتى إذا أكتمل الأهبة، فقد أتخذ سبيله إلى إيطاليا، وكان الرومان قد أخذوا عليه سبيل البحر بعد أن قضوا على أسطول قرطاجنة، ولم يبق له إلا أن يمضي فيخترق هذه المجاهل الجافة حتى يصل إلى سهول إيطاليا؛ ولقد فصل عن قرطاجنة الجديدة وهو في تسعين ألفاً فتهاوى منهم الآلاف في الطريق تعباً وإجهاداً. . . ولولا بقية من أمل معقودة بلواء فرسان نوميديا، لأدركه اليأس وكر راجعاً إلى بلده. . .
هكذا كانت حياته: واقع أشبه بالحلم، وحلم أشبه بالواقع! إنه ينام ليحلم بحرب روما، ويقوم ليمضي لخراب روما. ومضى أمامهم فمضوا من خلفه، وهم أشد ما يكونون رهبة من هذا الذي يمضي بهم إليه؛ إنهم ليشعرون الرهبة من هذه الجبال السامقة التي تطل عليهم وتنذرهم بالموت. . . وأين لأبدانهم المتعبة أن تتوقل هذه النجاد الوعرة، وأن تنحدر على