هناك فارق حاسم بين لغة العلم ولغة الفن، نستطيع إجماله في أن العلم يعنيه ما في السطور، وأن الفن يعنيه ما بين السطور، وبتعبير آخر إن العلم يعنيه معنى التعبير، والفن يعنيه الظل الذي يلقيه التعبير. ولا يفهم أحد من هذا ما كان مفهوماً عندنا قبل ثلاثين أو أربعين سنة من أن الفن هو تلك الألاعيب اللفظية، والبرقشات التعبيرية، فبين هذا وبين ما نريده فرق بعيد
إن ما نقوله لا يتنافى مع صدق الإحساس، وصدق التعبير عن الحياة، وهما مفرق الطريق بين ما كان يعنيه الأدب قبل هذا الجيل، وما يعنيه الآن. وبعد تحقق هذه المرحلة نبحث عما في السطور وعما بين السطور أو عن المعاني والظلال في التعبير عن الأحاسيس الصادقة التي هي الخطوة الأولى في كل أدب صحيح
وحين نأمن اللبس من هذه الناحية نتحدث - في حرية - عن أشكال التعبير وعن طرق الأداء التي نفضلها على أشكال وطرق أخرى
لقد أخذنا على الأدب العربي في جملته أن (المعاني) تعنيه، أكثر مما تعنيه (الحالات النفسية) وأن التعبير فيه يعني بهذه المعاني الكلية - الحسية أو الذهنية - قبل أن يعني (بالإنسان) من وراء هذه المعاني والاحساسات
وعذر العرب في هذا واضح. لقد كانوا أمة حس، لا تختزن في نفوسها رصيداً من الأحاسيس الوجدانات إنما تنفقه للحظة في الحركة والعمل، فضلاً على أن طبيعة بلادهم لا تهيئ لهم هذا الرصيد
فما عذرنا نحن - في مصر خاصة - وبيئتها أبعد ما تكون عن بيئة الصحراء في ألا ننتفع بالبيئة المواتية والطبيعة العريقة، في إبداع فن يأخذ من اللغة العربية ألفاظها وعباراتها، ويغير في طريقة الإحساس وطريقة التعبير، لنكون بهذا أمناء لأنفسنا، أمناء لطبيعة بلادنا، أمناء للفن الرفيع في جوهره ومظهره
لقد تحدثت في المقالات الثلاث الماضية بمناسبة كتاب (عرائس وشياطين) عما نعنيه