للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بالجانب الإنساني وعما نعنيه بالحالات النفسية، فاليوم أتحدث عن طريقة الأداء التي نؤثرها، ونبين المزايا الفنية لهذه الطريقة

التعبير الذي يلقى المعنى مجرداً يخاطب الذهن وحده، والتعبير الذي يرسم للمعنى صورة أو ظلاً يخاطب الحس والوجدان، ويطبع في النفس صورة من صنع الخيال. وطبيعي أن الطريقة الثانية أقرب إلى طبيعة الفنون، وأن الطريقة الأولى أقرب إلى طبيعة العلوم. والنموذج يوضح هذه القضية أكثر مما يوضحها أي بيان، فالنقد الفني موكل بالمثال أكثر من الإجمال:

لقد اختار القرآن الكريم طريقة التصوير والتخييل، وجعلها قاعدة فيه للتعبير. ومن العجيب أن يكون القرآن هو كتاب العرب الأول، ثم لا يستفيد الأدب العربي من طريقته الأساسية شيئاً بعد نزوله، وتيسيره للذكر في أيديهم. إلا فلتات في ديوان كل شاعر، هي امتداد للتصوير في الأدب الجاهلي وعلى طريقته، لا على طريقة القرآن الرفيعة

ولعل مرد ذلك إلى أن الحاسة الفنية عند أولئك الشعراء كانت أقل من أن تتطلع إلى هذا الأفق الرفيع في ذلك الأوان. فلعلنا أن نكون اليوم أحق بهذا التطلع من جميع من مضوا من شعراء العربية خلال أربعة عشر قرناً

إن تفرد القرآن بطريقته التصويرية في هذا المستوى بين الشعر الجاهلي والشعر العربي بعده يمكن أن يتخذ دليلاً فنياً على تفرد مصدر هذا القرآن، لولا أننا هنا في مقام البحث الفني، لا البحث الديني

والآن نعود إلى نماذج القرآن التصويرية في التعبير، لبيان فضل هذه الطريقة من الناحية الفنية:

١ - معنى النفور الشديد من الدعوة إلى الهدى، يمكن أن يؤدي في صورته التجريدية الذهنية على نحو كهذا: إنهم لينفرون أشد النفرة من الدعوة إلى الإيمان. فيتملى الذهن وحده معنى النفور في برود وسكون

ولكن التعبير القرآني يؤديه في هذه الصورة الحية المتحركة: (فما لهم عن التَّذكِرَةِ مُعْرِضِين؛ كأنهم حُمرٌ مُستنفِرة فَرَّتْ من قَسْورة) فتشترك مع الذهن حاسة النظر وملكة الخيال، ويثور في النفس شعور السخرية وشعور الجمال؛ السخرية من هؤلاء القوم

<<  <  ج:
ص:  >  >>