هاهو ذا القطار تتسارع دقاته كأنها خفقات قلب كبير. . . وهاهي ذي أعمدة التلغراف تتلاحق كأن بينها سباقاً لا نهاية له. . . وهاهو الثغر الحبيب يختفي وراء الأفق البعيد
القطار مزدحم بالكتل البشرية وكتل المتاع. الناس وجوههم مكفهرة مغبرة، نظراتهم حزينة قلقة. لقد هجروا ديارهم فارين من الموت الذي كان يحوم فوق رؤوسهم، لا حديث لهم إلا ما أصابهم من نقص في الأموال والأرزاق والأرواح.
أمامي سيدة تبكي بكاء صامتاً. . . تركت زوجها الذي لم يستطع اللحاق بالقطار؛ ولقد حاولت أن تعود إليه، ولكن أنى لها أن تتحرك بين هذه الجموع المحتشدة. إنها لا تعرف أين تذهب ولا كيف تعيش وهي لا تملك سوى الثوب الذي لا يكاد يستر جسدها
أما هذه الفتاة الهيفاء التي تجلس بجانبي شاحبة كأنها تمثال من الشمع، فهي خطيبتي وفتاة أحلامي (عايدة)
لقد كانت في يوم من الأيام زهرة نضرة تستقبل أشعة الشمس الذهبية وتميل مع النسيم الرخاء. . . ولكنها الآن بعد أن حطمت قلبها يد القدر القاسية، تبدو واجمة. . . وقد نفرت مني كأن قلبها لم يخفق في يوم من الأيام بحبي. . . وإذا التقت عيناي بعينيها نظرت إلي نظرة عتاب شديدة ثم أخفت وجهها كي لا أرى دموعها المنهمرة
في تلك الليلة المشؤومة، كنت أنا وعايدة في إحدى دور السينما حين سمعنا زمارات الإنذار ترسل نعيبها الحزين؛ وتسابق المتفرجون إلى الخروج يلتجئون إلى أقرب مخبأ، وأخذ كل يتحسس طريقه في الظلام. . .
. . . وأخيراً وجدنا مكاناً ضيقاً في أحد المخابئ. . . كان الجو خانقاً، والكآبة غاشية على كل وجه، وكان السواد الأعظم من الناس بملابس النوم. . . وابتدأت المدافع تدوي متعاقبة. . . وتعالت أصوات الدعاء من كل جانب. . . ومن حين إلى آخر كنا نسمع صفير القنابل