وهي تشق طريقها في الهواء متجهة إلى الأرض، فتحبس الأنفاس ويخيم على المكان هدوء كهدوء القبور. . . ثم نحس بالأرض تهتز تحت أقدامنا، ونسمع صوت الانفجار مصحوباً بصوت تناثر الزجاج. . .
وتبرعت (عايدة) بزجاجة عطرها تمررها بين الناس. . . كانت تبدي شجاعة نادرة، وكانت تواسي النساء قائلة: إن القنابل لا تقذف إلا على الأهداف الحربية، وإننا جميعاً في سلام!
وبعد ساعات - خيل إلينا أنها سنوات - سمعنا الزمارات تعلن انتهاء الغارة. . . فاندفع الناس خارج المخبأ لاستنشاق الهواء الطلق. . .
كانت الشوارع مضاءة بأشعة القمر الفضية، وكانت قطع الزجاج المتناثر تتلألأ ببريق غريب. . . وخرج الناس من كل جانب فامتلأت بهم الطرقات. . . كل يريد أن يطمئن على ذويه وأقاربه!
وشاهدنا ونحن نشق طريقنا بين الأكتاف بيوتاً تهدمت، وبيوتاً لا تزال تتهدم. . . كما شهدنا عربات صغيرة محملة بالمتاع وبالناس متجهة نحو محطة السكة الحديدية. . . كأن أصحابها لا يطيقون الإقامة في هذه المدينة لحظة أخرى بعد أن رأوا الموت بينهم. . . ومعهم!
وأخيراً. . . وبعد مجهود عنيف، بلغنا الشارع الذي تقيم فيه (عايدة) مع أمها وأختها الطفلة. . . كان الزحام شديداً بدرجة غير عادية، وكان عمال الإنقاذ والإسعاف يحاولون صد تيار الجموع المحتشدة. . .!
ولم أشعر إلا و (عايدة) قد تركتني واندفعت بين الزحام حتى غابت عن ناظري، كما تغيب قطعة الحرير البيضاء بين عتمة الأمواج المتلاطمة. . .
أخذت أناديها. . . ولكن صوتي كان يختفي بين همهمة الجمهور، وبين الصراخ والنحيب. . .
وأشرفت على مكان أستطيع منه أن أرى بيت (عايدة). . . لم أكد أصدق عيني. . . ذلك البيت الذي كان يشق الفضاء قد صار أثراً بعد عين، وقد تصاعدت في مكانه سحب من الغبار الأبيض الكثيف. . .!