كأني بالمعري يختص رسالة غفرانه بخيال النعيم والجحيم. ومساجلة الشعراء والأدباء، والنحاة والرواة. ثم بالرد على ابن القارح والحديث عن بشار والمتنبي وصالح بن عبد القدوس والحلاج والصناديقي وغيرهم من المتأهلين والمتزندقين مما بدأه ابن القارح بالحديث عنهم في رسالته. فلم يكن في كل مواقف (رسالة الغفران) ما يثير في نفسه الحنين إلى الوطن، ولو أن موقفاً من مواقف رسالته ذكره بالوطنية أو تعمد هو أن يخلق المواقف في تضاعيف كلامه للحديث عن الوطن وآلامه كما كان يفعل دانتي لأرانا ضروباً من الحماس للوطن والتفاني في سبيله. . .
المعري رجل يريد أن يداعب وأن يسخر. يريد أن يذكر للناس غريب اللغة ونحوها وعروضها. ثم هو يخاطب صديقاً له فلم يكون ثمة مجال لذكر الوطن أو الحديث عن الوطنية. ولكن دانتي كان أهم أغراضه في رسالته بكاء الوطن. وإثارة الحمية في النفوس للأخذ بناصر الشعب الذي تمزقت أوصاله، ولعبت به الحروب الأهلية شنيع الألاعيب. فكنا نتلمس الوطنية في كل خطوة من خطوات دانتي. . ونفقد ذلك في رسالة الغفران. فهل ضعفت نزعة الوطنية عند المعري؟ ألم يطرب للمعرة والشام ولتلك الربا والبطاح؟ لقد كان أبو العلاء يطرب لدياره وبلاده. وكان مغرماً أشد الغرام بوطنه ومنبته. فنحن نراه يكره الخلود ويشيح عنه بوجهه إن كان مع الخلود انفراده عن أهله ووطنه. ثم هو يسخط على السحائب إن اختصته بغيثها ولم تهطل على كل بلاده تبل ثراها وتحيي مواتها فيقول:
ولو أني حبيت الخلد فردا ... لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا نزلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا
ثم يتمنى النعيم لوطنه وإن فاته نعيمه. وتنزع نفسه أن يعود لبلاده وإن كان في يوم الحشر، ويوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت فيقول: