فيا وطني إن فاتني بك سابق ... من الدهر فلينعم لساكنك البال
فإن أستطع في الحشر آتك زائرا ... وهيهات - لي يوم القيامة أشغال
ثم نراه يقيم في بغداد والكرخ، وبين الرصافة والجسر، تلك التي شفه الحنين إليها منذ نعومة أظفاره. وكان يتكلف بها في شرخ الشباب، فحققت له الكهولة أمنيته. قال:
كلفنا بالعراق ونحن شرخ ... فلم نلمم به إلا كهولا
بيد أنه لم تكد تمر عليه بضع ليال حتى حن لوطنه وتمنى قطرة من ماء المعرة يطفئ بها ظمأه فقال:
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رماني إليه الدهر منذ ليال
فهل فيك من ماء المعِرة قطرة ... تغيث بها ظمآن ليس بسال؟
لقد كان أبو العلاء يذكر وطنه كلما لمع السراب إبان الظهيرة وكلما جن عليه الليل واحتوته الظلمات، ويستعذب ماء بلاده وإن كان آسناً. عن ماء الكرخ وإن كان كالصهباء. فيقول:
إذا جن ليلى جن لبى وزائد ... خفوق فؤادي كلما خفق الآل
وماء بلادي كان أنجع مشربا ... ولو أن ماء الكرخ صهباء جريال
ولم يكف المعري أن يصدح بذكر بلاده وحده، بل أشرك معه نياقه تلك التي تمنت قويقا والصراة حيالها. والتي كانت تطرب لضوء بارق الشام وأن تعالي عن مستوى نظرها حتى ليسرها أن تقطع رؤوسها وترفع فوق أسنة الرماح لتشيم بارق الوطن، والتي كانت تتلو زبوراً في الحنين إليه، مترنمة بقصائد أودعتها كل أشواقها لديارها فقال:
تلون زبوراً في الحنين منزلا ... عليهن فيه الصبر غير حلال
وأنشدن من شعر المطايا قصيدة ... وأودعنها في الشوق كل مقال
. . ولقد كان المعري يستطيب الحديث عن بغداد وعما يحف بها من المشاهد. فيقول:
هات الحديث عن الزوراء أو هيتا ... وموقد النار لا تكرى بتكريتا
ويجعل حفظ عهود أهلها من صلواته فيقول:
أعد من صلواتي حفظ عهدكم ... إن الصلاة كتاب كان موقوتا
ويتمنى أن تكون العراق تربته. وبها منيته. فيقول:
وكان اختياري أن أموت لديكم ... حميداً فما ألفيت ذلك في الوسع