للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[أحمد زكي باشا]

رحم الله زكي باشا ورضي عنه! لقد كان علَماً من أعلام هذا العصر، ورسولاً من رسل هذه النهضة! وأعلام هذا العصر ورسل هذه النهضة معلومون معدودون، لا تزيد فيهم المجاملة، ولا تنقص منهم المجافاة، ولكل واحد منهم ناحية من نواحي الإصلاح أشرقت فيها نفسه، وانتشر في جوانبها سناء. وهم يمتازون من النابغين والنابهين بأن لهم عقيدة فطرية قوامها الإيمان والعصبية، ورسالة روحية بلاغها الجهاد والتضحية. فمحمد عبده في الناحية الدينية، ومصطفى كامل في الناحية الوطنية، وقاسم أمين في الناحية الاجتماعية، وسعد زغلول في الناحية السياسية، وأحمد زكي في الناحية القومية؛ قد بلَّغوا جميعاً رسالات الفطرة على نحو ما بلغ المرسلون رسالات الوحي. نزلت على قلوبهم منذ الشباب الأول فجعلت عقولهم وميولهم ومواهبهم وقفاً عليها ودواعي إليها ووسائل لها؛ ثم لازمتهم في أطوار العمر، وحلت من نفوسهم محل الغرض من السعي والغاية من الحياة

فزكي باشا منذ بلغ سن التكليف تمثل لعينه مثَله، واستعلنت في ذهنه رسالته: رأى العروبة لفظاً تغير مدلوله في الناس، وجنساً تنكرت معالمه في الأجناس، ولساناً فشا فيه الدخيل، وديناً تقول عليه الباطلُ، وأثراً عبث به الجهل، وتاريخاً تطرق إليه النسيان، وحضارة غض منها التعصب، وحقاً تجهم له البغي، وإرثاً تخطفته الغزاة، ووحدة مزقتها العوادي. وكان أول ما عانى من وسائل العيش معالجة الترجمة في الديوان، ثم تعليمها في المدرسة؛ فصرف جهده في تنقيح التراكيب الديوانية، وتصحيح الأعلام العربية، وتصويب الأخطاء التاريخية، ونَقْل ما يعلن محامد الإسلام إلى اللغة الفرنسية، ثم لا يسمع بمكرمة تروى لأمة إلا التمس الأولية فيها للعرب. فالصحف الفرنسية تذكر أن وفود المهنئين دخلوا على الرئيس (بوانكاريه) يهنئونه بالرياسة فما شكر أحداً بما شكر به الآخر، فيكتب في تلك الصحف نفسها ان الوزير أبن زيدون قد سبقه إلى ذلك في موقف حرج من مواقف العزاء؛ وتتبجح أوربا باختراع الطيارة فيثبت لها أن أبن فرناس أسبق من طار في الجو وأول من مات في سبيل الطيران؛ وتشيد أمريكا بعبقرية (كولمب) فيقول لها إن العرب أول من فطن إلى وجدودها وسعى لكشفها

ثم اتسع أمامه أفق الجهاد فاستشرقت نفسه إلى إحياء ثقافة العرب ونشر حضارة الإسلام، فحج الأندلس وزار العواصم الأوربية، ينقب عن نوادر المخطوطات ونفائس المطبوعات

<<  <  ج:
ص:  >  >>