ينسخها أو يصورها أو يشتريها لا يدخر في سبيل ذلك جهداً ولا ثروة. ثم لابس المستشرقين دهراً مليَّا، يفيدهم ويفيد منهم حتى ثقف مناهج البحث، وحذق أصول التحقيق، ومهر طرائق النشر، وأصبح لهم مرجعاً وفيهم حجة
فلما اعتزل المنصب الحكومي تسايرت قواه وهواه إلى خدمة الأمة العربية، فوفد على ملوكها، وسفر بينهم بالصدق والألفة، حتى أذهب الموجدة، ومهد لتوحيد الكلمة
ثم جرد لاستقراء الدقائق واستجلاء الحقائق نشاط الصبي، وعزم الشاب، وصبر الرجولة، فشغل الصحف بالمقالات والمناظرات، وعمر الأندية بالخطب والمحاضرات، وأحيا المجالس بالملح والمحاورات، وفي كل يوم يعتكف الساعات الطوال في مكتبته الجامعة يحرر مسألة، أو يحضّر إجابة، أو يحّبر مقالة، أو يصحح تجربة، حتى إذا فرغ من ذلك كله رجع إلى بيته، فوجد ناديه قد حفل بزواره وسماره من رجالات العرب والمسلمين الطارئين على مصر، فينشر عليه الأنس، ويفيض فيه الكرم، ويبث خلاله المعرفة، فكانت حضرته كحضرة الصاحب بن عباد، مصدر العوارف والمعارف، ومثابة القصد من كل قطر وطبقة
ثم أسلم وجه إلى الله في عهده الأخير، فجعل همه وعزمه حبساً على إنشاء مسجده وبناء قبره. فكنت تراه لا يفكر إلا في هذا المسجد، ولا يعمل إلا له، ولا يتحدث إلا عنه، ولا ينفق إلا عليه، ولا يُبرد البُرُد ويرسل الرسل إلا في شأنه. فلو لم يعجله الموت عنه لتركه قطعة خالدة من الفن العربي
ثقافة زكي باشا ثقافة الأديب، فهو محيط بكل شيء، ولكنه غير راسخ في شيء؛ وذوقه ذوق الفنان، فهو أنيق في ملبسه، أنيق في مأكله، أنيق في مسكنه، أنيق في نشر مقالة، أنيق في طبع كتابه؛ وخلقه خلق العالم، فهو متطامن النفس، عذب الروح، حلو الفكاهة، سليم الصدر، يذهب في السذاجة إلى حد العُجب، ويخرج من تقرير مجهوده في العلم إلى التفاخر به
وكان تصوره وتصويره عربيين خالصين على رغم تضلعه من الفرنسية، وإلمامه بالآداب الأوربية: فتفكيره استطرادي لا يعني بالوحدة، ولا يحفل كثيراً بالتناسق، وأسلوبه أندلسي يتصيد السجع، ويلتمس ألوان البديع، ومرجع ذلك إلى اعتقاده بعربيته، واعتداده بشرقيته،