أما أحدهما فكان يحب الحياة ويخشى الموت، وأما الآخر ففيلسوف يستصغر شأنها وينفذ ببصره وراء ظواهرها الزائلة إلى حيث الحقيقة الخالدة. جمعت بينهما الأيام على مائدة واحدة فدار بينهما الحديث وتشعبت أطرافه، وما لبث الحوار بينهما طويلاً حتى مس موضع التناقض بينهما. . .
تراسيماكوس - لله ما أعجب الموت! لا يكاد يمس الحي بأطرافه الباردة، حتى تنقلب تلك القوة المفكرة المدبرة الفعالة إلى جمود الصخر، يلقى بها في جوف القبر الصامت، وكأنها بعض تربته، أفتستطيع يا صديقي أن تحدثني حديثاً جلياً واضحاً لا يغمض ولا يلتوي عن قصة هذا الموت العجيب؟ ماذا عساي أن أكون بعد هذا القضاء المحتوم؟
فيلاليش - ستكون كل شئ ولن تكون شيئاً
تراسيماكوس - لم أكن والله أتوقع منك حين طرحت السؤال، إلا عبارة كهذه مبهمة مرنة، أسرفت في المرونة والإبهام حتى وسعت كل معنى، فلم أظفر مما أريد بشىء، وماذا عسى أن أفيد من جواب يتنافر الصدر فيه مع العجز، ويتناقض شطره الأول مع شطره الثاني، فيزيد المشكلة تعقيداً على تعقيد ولا يوضح منها شيئاً؟ ولكنها الفلسفة العقيمة تأبى إلا أن تعلو بنفسها فوق مستوى الإفهام فتربك العبارة إرباكاً وتغلقها إغلاقاً، كأنما أريد لها أن تقتصر على قائليها، وكان خليقاً بها إن أرادت أن تمكن لنفسها من العقول، أن تلتمس سبيلاً طيعاً ذلولاً، لا وعراً ولا شائكاً، فيروده الرائدون جميعاً.
فيلاليش - عفواً صديقي، فما قصدت إلى التناقض عمداً بل اضطررت إليه اضطراراً، فهذه اللغة التي تواضع الناس على اصطناعها في التفاهم، لم تنشأ أول أمرها إلا لكي تكون أداة للتعبير عما يقع تحت الحس من أشياء، فلما درج الإنسان صاعداً في سلم الرقي، وبدأت تدور في رأسه خلجات من الفكر المجرد ثم أراد أن يبرزها في ثوب من اللفظ، لم تسعفه إلا هذه اللغة، التي إنما خلقت للمحسوسات، والتزم أن يجرى في قوالبها المحدودة تلك الآراء المطلقة التي لا تعرف الحدود، فلم يكن بد من هذا التناقض والاضطراب، فأنا إن فكرت في مصيرك بعد الموت، فلست أعنى بجسدك وما يطرأ عليه، بل يسبح الفكر في