ضحى الإسلام كصاحبه شديد الوضوح، سديد المنهج، غزير البحر، جم التواضع، تقرأه فتتسابق معانيه إلى فهمك، وتتساوق أغراضه إلى ذهنك، فلا تشك في أن مؤلفه قد استبطن دخائل موضوعه، وأحاط بأصول بحثه وفروعه، لأن المعنى إذا اتضح في الذهن واتسق في الشعور أسفر عنه البيان في إشراق وسهولة وقوة، وما يتعقد الأسلوب إلا من غموض الفكرة أو طموس الصورة أو ضعف الملكة.
اسمع صاحب الضحى أو اقرأه تجده في حاليه واضحا صريحا ثقة، لأنه يتكلم عن روية، ويشرح عن فهم، ويكتب عن تفكير، ويؤلف عن دراسة، أما فترة الشك والتردد فنهايتها بداية عمله.
موضوع الكتاب الحياة العقلية للمسلمين في القرن الأول من العصر العباسي، والعقلية الإسلامية يومئذ كانت أشد العقليات تركيباً، وأكثرها تعقدا، وأوفرها نتاجا، لأنها مزيج عجيب من آثار شتى لجنسيات متعددة، وحضارات متنوعة، وثقافات مختلفة، فتحليل هذا المزيج إلى عناصره الأولية كما يفعل الكيميائي، ورد هذه القوة الناتجة إلى قواها البسيطة المحركة كما يفعل الميكانيكي، أمر لم يضطلع به إلى اليوم غير أحمد أمين، لأن الوسائل التي تهيأت له من مواهبه ومكاسبه وبيئته وعصره لم تتح مجموعة لأحد من قبله، فلو أنه اجتمع لمؤرخينا السالفين مع سلامة الفطرة، ونفاذ البصيرة، وسعة الاطلاع، الوقوفُ على علوم الاجتماع، ومذاهب النقد ومناهج البحث، لما تركوا لنا التاريخ على هذه الحال المضنية من النقص والمبالغة والفوضى، ولكن هذا التاريخ الذي قنع بأخبار الحرب والفتح، والولاية والعزل، والولادة والوفاة، واغفل الكلام في تبدل الأحوال والأطوار، وتغير الميول والأفكار؛ وتطور العادات والمعتقدات، في طبقات الأمة، هو نفسه الذي استخلص منه احمد أمين كتابيه فجر الإسلام وضحى الإسلام على هذا النهج الواضح والنسق المطرد! فاعتبر في نفسك أي عقل إستجلى هذا الغموض، وأي فكر استغل هذا النقص، وأي صبر ساعد هذا الجهد!