سار المؤلف في تحرير كتابه على خطة سديدة، وتبويب متناسق. فجعله جزئين متساويين: بسط في الأول العوامل التي أثرت في العقلية الإسلامية وهو الذي ظهر، وفصّل في الثاني الآثار التي نشأت عن هذه العقلية نفسها وهو الذي سيظهر. ثم كسر كلا من الجزئين على بابين: فالأول على الحياة الاجتماعية وعلى الثقافات الدينية والمدنية، والثاني على الحركات العلمية ومعاهد العلم وحرية الفكر، ثم على المذاهب الدينية وتاريخ حياتها وأشهر رجالها وأهم أحداثها.
فموضوع الجزء الذي في يدينا الآن إذن هو العوامل المؤثرة في الحياة العقلية الإسلامية في شباب الدولة العباسية، وهذه العوامل أما مادية نشأت من طبيعة الاجتماع كاختلاف الأجناس، وصراع الطوائف، ونظام الرقيق، ومظاهر الترف من مجون ولهو، ونتائج البؤس من يأس وزهد، إلى غير ذلك مما أسبوعيته فصول الباب الأول الستة وأما أدبية نشأت من تداخل الثقافات الفارسية، والهندية، واليونانية، والعربية، واليهودية، والنصرانية، وما يتبع ذلك من تمازج الآداب والمعتقدات والأنظمة، وقد استقصى المؤلف أطرافها في فصول الباب الثاني الستة.
وهذا الوضع المنطقي المحكم قد ضمن لآراء الكتاب أن تطرد، ولأجزائه أن ترتبط، ولأبحاثه أن تجتمع، فجاء من حيث التأليف مدمج الفصول، مرسوم الوجهة، محدود الغاية، بريئا مما يجره عدم الخطة أو فسادها من استطراد مشت في جهة، وإخلال مرهق في جهة أخرى، وتلك مزية قل أن تجدها في كتاب.
صاحب ضحى الإسلام شديد اليقظة، مستقل الرأي، لا يعرض قولاً دون مناقشة، ولا بحثا دون تقدمة، ولا رأيا دون دليل، ولا تشعر وأنت تقرأه أن هناك رأياً معينا تسلط عليه، أو فكرة سابقة أثرت فيه، فهو يخطِّئ (جولد زهير)، كما يخطّئ ابن خلدون، ويعرض الثقافات الدينية المختلفة بميزان واحد ولسان واحد.
تبدو هذه اليقظة، ويتجلى هذا الاستقلال، منذ الكلمة الأولى في الكتاب؛ إذ يفطن إلى الخطأ الذي جره على بعض المؤرخين الكسل والتقليد في تصويرهم سقوط الأمويين وقيام العباسيين حداً فاصلا بين حياتين مختلفتين للأمة الإسلامية، تبتدئ الثانية عند انتهاء الأولى، ثم يتجليان في سائر الفصول وعلى الأخص في الشعوبية والاسترقاق والزندقة،