للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

صاحب الديوان المجد

مجد في عمله، لا يعرف في جده هوادة؛ فإذا رأيته يقرأ جريدة من الجرائد أو مجلة من المجلات؛ فمن أعظم التجني عليه أن تحمل عمله هذا على أنه مضيعة للوقت في غير جدوى، فما هو إلا استجمام لابد منه لمن يعاني مثل عنائه المتصل؛ وإذا رايته يبدأ عمله عند العاشرة أو في منتصف الحادية عشرة، فاعلم أن ذلك من أثر إجهاده نفسه وتحامله على أعصابه في اليوم السالف، لا شئ غير ذلك؛ وإذا رأيته يتزاور عن مكتبه، فيحرق دخينة في إثر دخينة، أو يرتشف القهوة في هدوء وسكون، ويقضي في ذلك ساعة أو بعض ساعة، فترفق بهذا الجسم الذي أنهكه الجهد، ولا تأثم فتظن بصاحبه الظنون

وصاحب الديوان هذا لا يطيق أن يرى وجوه الناس، فإذا أبصر أحدهم مقبلاً، أحس كأنما عليه مكروه من مكاره الزمن فيلقاه متأففاً متبرماً، وإنه ليتمتم حين يراه بألفاظ لا أدري أيسوقها ضد القادم الكريم، أم ضد الزمن اللئيم الذي وضعه حيث يستقبل هؤلاء الذين يصرفونه عما هو فيه من جد لا يعرف معه هوادة؟!

دخلت عليه ذات يوم قبيل العاشرة، فرأيته لسوء حظي أو لحسن حظي - لست أدري أيهما الصواب - يترك مكتبه ليغادر الحجرة إلى حيث لا أعلم من الحجرات أو من الجهات؛ فحاولت أن أستوقفه مترفقاً، فاستمهلني دقيقة واحدة وهو عابس ثم ازور عني في حركة سريعة خيل إلي معها أنه يخشى أن أرجعه بالقوة إلى مكتبه!

ولبثت أنتظره في مقعد تفضل به علي أحد زملائه، ومرت اللحظات ثقالاً طوالاً ولم يعد، حتى إذا يئست من رجوعه وهممت بالانصراف رأيته مقبلاً، وجاء وفتح بعض أدراج مكتبه وأغلقها ولكنه لم يأخذ منها شيئاً ولا وضع شيئاً، وفعل ذلك دون أن يجود بنظرة علي أو أن يخطر بباله أن أحداً من عباد الله ينتظره لأمر متصل بعمله ولن يؤديه سواء!

واعترضت طريقة إذ رأيته يتأهب للخروج مرة ثانية،

وما التقت أعيننا وانفرجت شفتاي في ابتسامة هادئة عن قولي: من فضلك. . . حتى أشاح بوجهه عني مقطباً قائلاً في تبرم وضيق (عن إذنك دقيقة يا أفندم). . . ومضى وإنه لضائق بثقلي وثباتي في موضعي، وخيل إلي بل لقد أيقنت أنه عقد النية على ألا يكلمني

<<  <  ج:
ص:  >  >>