ما دمت هناك كأنه لا مفاوضة عنده هو أيضاً إلا بعد الجلاء!
وصممت من جانبي ألا أنصرف أو يكلمني، وإن أخذتني الحيرة كيف أحمله ولو على أن يلتفت إلي فضلاً عن أن يحادثني؛ ولقد كنت أرجح عودته إلا إذا غادر الديوان إلى داره وترك طربوشه حيث كان على مكتبه يحدث كل سائل عنه أنه هنا وأنه قادم بعد دقيقة، وإن تتابعت في غيابه الدقائق بل الساعات!
وجاء أخيراً فاستوى على كرسيه وفتح دفتراً كبيراً وراح ينظر فيه وعلى وجهه أمارات الجد وأمارات تجاهله وجدوي في وقت واحد ثم قطع عليه جده المصمم زميل له فأخبره أن فلاناً وفلاناً من الرؤساء استفهموا عنه، فأجاب متكلفاً عدم المبالاة أنه ما كان يلعب وأنه هلك من الجري هنا وهناك في (الأرشيف) و (المستخدمين) و (الحسابات) وتحت وفوق باحثاً عن أوراق تتصل بما في يديه من المسائل
وظللت ساكتاً لحظة، فأقبل شخص بادي الوجاهة، يطأ أرض الحجرة في صلف وينظر نظرة ذي الجاه، وفرحت إذ رأيته يتجه إلى صاحب الديوان المجد فيسأله في لهجة الآمر عن مسألة طال به انتظار الإجابة عنها؛ وتهجم له صاحب الديوان ولم يعبأ به، ولما تهدده الرجل أن يرفع الأمر إلى رئيسه، انطلق صاحب الديوان مزمجراً ونهض واقفاً يخبط المكتب بقبضة يده عدة مرات حتى لقد أشفق ذلك الرجل أن تمتد واحدة منها إلى صدره أو إلى بطنه فتراجع قليلاً، وقد تطايرت الأقلام من مكامنها، وسال المداد من المخابر، وتناثرت الأوراق، وزلزلت الدفاتر، وخشعت الأصوات في جوانب الحجرة، والتفت أصحاب الديوان يتفرجون على عاصفة جديدة كم رأوا قبلها من عواصف؛ وانطلق لسان المجد الثائر بعبارته المألوفة:(يا أفندي أنت بتهددني؟ من فضلك ما تعطلنيش يا أفندي. . . أما شئ غريب والله. روح اشتكي زي ما أنت عاوز. . . هو أنا فراش عندك؟ الواحد طول النهار هلكان من العمل وجاي حضرتك تفلقنا؟)
ولم يكن لي بعد هذا الذي رأيت إلا الجلاء بلا قيد ولا شرط، وقد أصابني من دوار العاصفة ما زعزع إيماني بقوتي، ولم لا أقرر الحق فأقول: إني منذ أن رأيت أهاويل الشر في وجه صاحب الديوان قد رضيت من الغنيمة الإياب؟