حينما كنت في باريس أتلقى دراسة القانون تعرفت بالفندق الذي كنت أقيم فيه بالحي اللاتيني (حي الطلبة) بطالب أسباني، وقد دفعتني إلى حب التعرف به معرفتي اللغة الأسبانية، (فقد قضيت خمس سنوات بأسبانيا)، والميل إلى التمرن عليها. . كذلك جذبتني إليه سيماه العربية كسمرة بشرته، وعيونه السوداء، وهي في حدتها كعيون البدو في الصحراء، وجذبتني إليه اسمه العذب الذي ينتهي بحرف (الثاء) إذ كان يدعى مونيوث، وهذا الحرف لا يوجد على ما أعلم - إلا في اللغة العربية، فورثته الأسبانية عنها. . كنا نقضي الليل أنا وهو في كثير من الأحيان، في مقهى ليلي جميل يديره بعض الصينيين بالحي اللاتيني، ذلك الحي الذي لم يكن تخلى بعد لحى مونبرناس (حي الشعراء والفنانين) عن إمارة الليل. .
وكان مجلسنا يضم أيضاً طالبين أسبانيين، وطالباً أخر من جزر الفلبين. .
وا آسفاه على تلك الليالي الغابرة التي قضيناها في المتاع واللهو! بينما كنا ذات ليلة جالسين كالعادة في المقهى ننعم بالرقص والموسيقى، إذا بأحد الشبان يصفع صديقته وقد رآها تتبادل النظرات غير المشروعة مع شاب آخر. . فغضب مونيوث لهذا المنظر، وهم بالتدخل في الأمر لولا أننا أمسكنا بسترته لأننا كنا نخالفه الرأي اشفاقاً على العاشق المخدوع الذي لم يقدم على عمله في اعتقادنا، إلا تحت سلطان الغيرة. . وقد دفعنا هذا الحادث إلى الخوض في موضوع الغيرة فأطبق رأينا على أنها شعور طبيعي يلازم الحب، وعلى أنه مقياس حرارته الصادق، بخلاف مونيوث الذي كان يرى في الغيرة شعوراً أولياً همجياً يمكن القضاء عليه بالتربية والتهذيب كما قضت المدينة من قبل على بعض عيوب البشر الأولى. .
فقال عندئذ فرناندو - الطالب الفلبيني - موجهاً الكلام لمونيوث:
إذا كنت يا صديقي لا تغار فما بالك تحجب عنا حبيبتك نانيت؟