للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[يوم الوقفة]

عرفات. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

(وَأَذِّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجِّ عَمِيقٍ، لِيًشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، وَيذْكُرُوا اسم الله فِي أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ، فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بَالبْيتِ العَتِيقِ)

هنالك ينكشف الغطاء، وتنفتح أبواب السماء، فيتوجه الحجاج إلى الله بقلوب انزاحت عنا ظلمة الأهواء والشهوات، وأشرقت عليها الأنوار، فسمت حتى رأت الأرض ومن عليها ذرة صغيرة تحملها رياح القدرة، ثم سمت حتى سمعت تسبيح الملائكة بألسنة الطاعة، ثم سمت حتى تدبرت القرآن غضاً غريضاً، كأنما نزل به الوحي أمس، وسمعت النداء من جانب القدس: (يا أيها الناسُ إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى، وجعلناكم شُعُوباً وقبائِلَ لِتَعَارَفُوا، إنَّ أَكْرَمكم عِنْدَ الله أتقاكم). فأجابت: لبَّيك اللهم لبيك!، فردَّدت بطاح عرفات، وأرجاء الحرم، وردَّدت السموات السبع والأرضون السبع: لبيك اللهم لبيك!

هنالك تتنفس الإنسانية التي خنقها دخان البارود، وعلامات الحدود، وسيد مسود، وعبد ومعبود، وتحيا في عرفات حيث لا كبير ولا صغير، ولا عظيم ولا حقير، ولا مأمور ولا أمير، ولا غني ولا فقير

هنالك تتحقق المثل العليا التي لم يعرفها الغرب إلا في أدمغة الفلاسفة وبطون الأسفار، فتزول الشرور، وترتفع الأحقاًد، وتعم المساواة، ويسود السلام، ويجتمع الناس على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في صعيد واحد، لباسهم واحد، يتوجهون إلى رب واحد، ويؤمنون بنبي واحد، ويدينون بدين واحد، ويصيحون بلسان واحد: لبيك اللهم لبيك!

هنالك تظهر المعجزة الباقية، فتطوى ثم تؤخذ من أطرافها، حتى توضع كلها في عرفات، فتلتقي شطآن أفريقية بسواحل آسية، ومدن أوربة بأكواخ السودان، ونهر الكنج بنهر النيل، وجبال طوروس بجبال البلور، فيعرف المسلم أن وطنه أوسع من أن تحده على الأرض جبال أو بحار، أو تمزقه ألوان على المصور فوق ألوان، أو تفرقه في السياسة خرق تتميز من خرق، وأعلام تختلف عن أعلام

<<  <  ج:
ص:  >  >>