هذا العدد الممتاز ينظر في أثر الإسلام في المدنية، وقد يسبق إلى النفس من هذا أن المدنية غاية عليا ونظام كامل نشأ من عدة عوامل أحدها الدين، وأننا إذا أردنا أن نحتفل في (الرسالة) بالحادث الأكبر، حادث الهجرة، الذي ثبت الله به الدين الكامل، أحببنا أن نثني على الإسلام بالإشادة بنصيبه في تشيد صرح المدنية التي هي أعم واشمل، وقد يقال أكمل، من الإسلام؛ ولو كان هذا هو المراد، أو كان هذا ينتج من الاحتفال بالهجرة على هذا النحو، لكان احتفالنا احتفالاً معكوسا، ولكانت إشادتنا بما نريد أن نشيد به ذما له وانتقاصا. لكن ليس الغرض من الاحتفال بالهجرة على هذا النحو هو الإشادة بالمدنية ثم بالإسلام بالتبع، إنما الغرض هو شبه دراسة اجتماعية مرماها إن أمكن تحديد الصلة بين هذه المدنية القائمة وبين الإسلام، أو بالأحرى تحديد ما هنالك من توافق وتفاوت بين المدنية الواقعة كما نراها اليوم والمدنية الغائية كما جاء بها الإسلام
وفي الحق إن هذه المدنية بعيدة جداً عن أن تكون مثلا أعلى للمدنيات قد جاد بتحقيقه الزمان، فإن المدنية الكاملة يجب أن يكون بينها وبين الفطرة من الاتفاق ما يجعلها في الواقع جزءا من الفطرة التي فطر الله عليها الكون، وآية ذلك أن يكون فيها ما في سائر النظم الكونية من الاتساق والانسجام والتوافق والتماسك والاتزان والهدوء، وهذا لا يتحقق لأية مدنية من المدنيات إلا إذا قامت على الحق في جميع نواحيها، وكانت نظمها النافذة منطبقة على قوانين الفطرة التي فطر الله عليها الناس أفرادا وجماعات
وشيوع الخلل والاضطراب في النواحي الاجتماعية من هذه المدنية هو دليل شيوع الباطل في هذه النواحي، ودليل بعد هذه النواحي عن الفطرة. لكن إذا كان الباطل قد شاع في أكثر نواحي هذه المدنية فإن هناك ناحية واحدة قد عزت على الباطل أن يكون له فيها مقام، ودانت للحق فهو فيها الحاكم المطاع. تلك هي الناحية العلمية التي أثمرت للمدنية هذه القوة المادية التي فتن بها الناس فظنوا هذه المدنية أفضل المدنيات حين قدرت على ما لم تقدر عليه المدنيات قبلها من طيران في الهواء وغوص في الماء، وتسخير للبحار والكهرباء؛