للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في طريق المدينة]

للأستاذ علي الطنطاوي

أفاق سحراً - ولا يبدو السحر على أتمه إلاّ في البادية، فلا ليل في الجلال كلَيْلها، ولا صبح في الجمال كصبحها، ولا نهار في الشدة كنهارها - فجلس ينظر إلى هذه الصحراء التي تمتد من حوله؛ يغيب أوْلها في بياض الفجر المقبل، وآخرها في سواد الليل المدبر، وهي ساكنة سكون الموت، واسعة سعة السماء، فأحس في نفسه بشيء لم يحسّ به قط؛ فقال: لا إله إلا الله! فخرجت من أعماق قلبه. . . وأي امرئ تلقيه الأيام في البادية، فيرى ليلها ونهارها، وشمسها ورمالها، ثم لا يكون أشد الناس بالله إيماناً، وعليه اتكالا؟ وهو يرى أبداً من جلال المخلوق ما يخشع منه قلبه لجلال الخالق؛ وهو يعلم أنه ليس بينه وبين أن يموت عطشاً، أو يهلك جوعاً، إلا أن يحيد عن طريقه ذراعاً، أو ينحرف عن وجهته شبراً. . . وكيف يكفر بالذي لا يرجو النجاة إلا منه، ولا قوّة إلاّ به، وليس له من يدعوه إلاّ إياه؟

وكانت تلك صبيحة اليوم السابع عشر من أيام البادية، فطفق يذكر هذه الأيام، وينظر ما أفاده فيها، فإذا هو قد عرف من خبر العرب، في سبعة عشر يوماً، ما لم يعرفه في سبع عشرة سنة، يقرأ فيها أسفار العرب، ويتلو أشعار العرب، ويدرس لغة العرب، وتاريخ العرب، وإذا هو قد سافر ألفاً وثلثمائة سنة في الزمان، لا ألفاً وثلثمائة كيلٍ على الأرض؛ وسلك الطريق التي سلكها الغزاة الأوّلون، فعلم أن سرّ قوةّ العربي الأوّل الذي عمل ما لم تعمله الجن، ولا تقوى عليه المرَدَة، حتى بنى للحضارة هذا الصرح العظيم، فأوت إليه، وتفيأت ظلاله، وإنّ سر عجز العربيّ الأخير، حتى نام عن هذا الصرح، وأباح العدوّ حماه، إنما هو (بعد الإسلام) هذه الصحراء

هذه الصحراء الذي لا يعيش فيها الجبان العاجز، لأن الحياة فيها بين عيني الأسد، لا ينالها إلاّ شجاع مقدام، أخو غمرات، صّبار على النكبات، ضحّاك في الملمّات، وإلاّ ابن الشمس، صديق الرمال، حليف الجوع والعطش، ذو إرادة لا تنثني، وهمة لا تطاول، وعزيمة لا تفلّ

ولا يعيش فيها المريض، لأنها لم تخلق مستشفى للمرضى، ولكنما خلقت ميداناً للأبطال، وأنىّ يأتي البدويّ المرض، ما دام لا يؤتى من قبل معدته (والمعدة بيت الداء)، وما دام كل

<<  <  ج:
ص:  >  >>