طعامه التمر والسّمن واللحم والأقط، وكلّ شرابه اللبن والماء، فإذا مرض يشرب قارورة من شعاع الشمس، وشمس الصحراء أنفع من مجموعة صيدليات باريز! فإذا لم تجده نفعاً، أجداه الكي، وما بعد الكيّ إلا حياة كاملة أو موت كامل، هو خير على كل حال من حياة ناقصة. . . وقديماً قالوا آخر الطب الكيّ!
ولا يعيش فيها الفقير، لأن أهلها كلهم أغنياء. . . وهل الغنى إلاّ أن تنال كل ما تطلب؟ وهل يطلب البدويّ إلاّ ماء له وكلأ لمواشيه؟ فإذا أمحلت الدار أم غيرها:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
ولا يعيش فيها المنافق المتملّق الخدّاع، الذي يلبس جلد الحمل على جلد الذئب. . . . لأن الصحراء منبسطة مستوية متكشّفة، ظاهرها كباطنها، وليس فيها سقوف ولا جدران، ولا مغارات ولا سراديب، وكذلك نفس العربيّ ما في قلبه على لسانه؛ فان عاداك فعداوة الشريف، يستقبلك بالشر ولا يستدبرك به؛ ويحمل إليك الموت على شفرة السيف، لا يقدمه في كأس من الذهب، قد خلط فيها السمّ بالدسم؛ وإن صافاك آخاك، فأخوّة الشريف يفديك بنفسه وماله، ولا يرغب عنك حتى ترغب به، وإذا أنت أنكرت من العرب جفاء في الطبع، أو خشونة في المقال، فلن تنكر منهم عَوْضُ تلوّناً ولا تملقاً، ولا تنكر منهم لين الحيّة ولا لطف المستعمر. . . على أنّ الجفاء ليس من شأن العرب، ولا هو في جميعهم، وإن فيهم للطفاً، وإن فيهم لظرفاً، وإن لهم لأحلاما. . .
وطفق يذكر كيف كان يتبرم بهذه الأشعار التي تندب الديار وتبكي الأطلال، ويستثقلها ويراها كأنها الدّمى فيها جمال وليس فيها روح؛ فلما كانت أول ليلة قضاها وأصحابه في البادية، وحطّ الركب في قاع الدغيلة فوقفت السيارات الخمس، ووضعت الأحمال، ونصبت الخيام، وأوقدت النيران، ورفعت القدور، وبسطت البسط، ومدّت الفرش، وكمل المجلس حتى قام المذياع (الراديو) يسمعهم بين الشّيح والقيصوم، أغاني عبد الوهاب وأم كلثوم
ف. . . باتوا بأنعم ليلة حتى بدا ... صبح تلوَّح كالأغرّ الأشقر
فنادى منادي الرحيل؛ فما هي حتى طويت الخيام، ولفّت البسط، وشدّت الأحمال، فإذا كل شيء كأنه حلم، أو كأنه صفحة طويت، ولم يبق إلا الؤى المهدم، وإلاّ موقد النار، فامتلأت نفسه حزناً، وانطلق لسانه يترجم عن أصدق عاطفة، وأعمق شعور، بكلمة النابغة التي