للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

استثقلها، وعدها من القول المعاد، والكلام الفارغ:

عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار. . .

وانطلق يقف إخوانه لحظة، يحيّ فيها هذه البقعة التي ترك فيها ليلة من حياته، وطائفة من ذكرياته، وقطعة من نفسه؛ ثم عاد فسخر منهم كيف يقفون على أحجار قد سوّدتها النار، وحفرة حفروها من حول الخيمة خشية الأمطار. .

ماذا تحيوّن من نؤى وأحجار؟

ويجد القاع بعد أن تقوّضت الخيام، وطويت البسط، وضاع المكان الذي سوّاه لنومه، وأعدّه لجلوسه

أقوى وأقفر من نعم وغّيره ... هوج الرياح بهابي الترب موّار

ويطول به الوقوف، وأصحابه يستحثّونه، والسيارات (تصرخ) مستعجلة، فيمشي وهو يفكر في هذا القاع. هل يحفظ هذه الذكريات؟ ويسأل هذا القاع: هل يذكر أبداً هذه الليلة التي قضاها فيه، والعواطف التي استودعه إياها؟ فلا يسمع مجيباً، ولا يجد إلا أحجار الموقد، وإلا هذا الثمام الضعيف الليّن، الذي جمعوا منه فأوقدوا به النار، واتخذوه فراشاً، فينشد قول النابغة:

وقفت فيها سراة اليوم أسألها ... عن آل نعم أمواناً عبر أسفار

فاستعجمت دار نعم ما تكلمنا ... والدار لو كلمتنا ذات أخبار

فما وجدت بها شيئاً ألوذ به ... إلا الثمام وإلا موقد النار

وتعدو به السيارة عدو الظليم، وهو لاهٍ عما حوله، يتمثل الشاعر وقد يممّ الديار، فلم يجد بها سائلاً ولا مجيباً:

ناديت: أين أحبّتي؟ ... فأِجبت: أين أحبّتي؟

فبرّح به الشوق، واشتعلت في صدره النار، وكواه الهجر فذهب يذكر نعماً، وقد كان يسايرها حتى ينأى بها عن الحيّ، ثم يجلسان حتى تغيب الشمس، ويلفهما الظلام برداء الأمن من الرقباء، ويسبغ عليهما نعمة الحبّ، فلا يكون بينهما إلا كل خير: يبثها حبّه، فتشكو له حبّها، ويكشف لها عن قلبه، فتكشف له عن قلبها، ولا يخفي عنها شيئاً، ولا تكتمه شيئاً:

<<  <  ج:
ص:  >  >>