وقد أراني ونعما لاهيين بها ... والدهر والعيش لم يهمم بامرار
أيام تخبرني نعم، وأخبرها ... ما أكتم الناس من حاجي وأسراري
وجعل يذكر كيف فهم في تلك الساعة قصيدة النابغة، ونفذ إلى روحها، وقد كان يتلوها، ويدرّسها، ويشرحها، فلا يفهم منها إلا كلماتها وجملها، وعروضها وإعرابها؛ وجعل يذكر ما حفظ من أشعار الديار، فيبصر فيه جمالاً لم يبصره من قبل، فيعلم أنه قد كان منه في ليل مظلم، لا يرى فيه إلا سواداً فطلعت تلك الساعة بدراً، أراه أن وراء الظلام دنيا واسعة، وفتنة وجمالاً، وروضة وأنهاراً. . .
وجعل يذكر كيف كان يقرأ أمثال العرب فلا يفهم من قولهم:(أن ترد الماء بماء أكيس) إلاّ أن ذلك أحزم، فلما خرجوا من القاع وأقبلوا على ماء الهزيم الذي طالما وصفوه لهم وحببوه إليهم، وجده بئراً منتنة خبيثة، تقتل من يشمها، فكيف بمن يشرب منها؟ فعلم أن معنى أكيس: أنك لا تشرب ماء خبيثاً فتمرض!
فلما وردوا ماء الفجر، بعد مسيرة يومين في الشعب لم تر السيارة فيهما كيلين متتابعين على أرض كالأرض، ولكنها كانت تعلو صخرة، أو تهبط حفرة، أو تغوص في رملة، لما وردوا الماء وجدوه جافاً، فعلم أن معنى أكيس: أنك تبقى بلا ماء فتموت
ثم نظر فرأى الفجر قد انبثق، فأيقظ المؤذن، وكان قوي الحنجرة حسن الصوت، فأذن فزلزل البادية بـ (الله أكبر) فلما قال (أشهد أن محمداً رسول الله)، لم يتمالك صاحبنا نفسه أن تضطرب وقلبه أن يخفق، وعينه أن تدمع:
هذا آخر يوم من أيام البادية. لم يبق بيننا وبين المدينة إلاّ نصف مرحلة. . . فهل يكتب لنا أن ندخل من باب السلام ونقوم أمام الحجرة ونسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟