كأن محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أن ينبأ رجلا من العرب، ثم كان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكأن لا يرى رؤيا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء، وكأن يخلوا بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. ومن يومئذ صار هذا الرجل من العرب رسول الله الذي وجبت على الناس كافة طاعته والامتثال لأمره فيما نهى عنه وما أمر. ذلك أول الإسلام الذي نفض العرب من بواديهم حتى ملأ الأرض عدلا وإيمانا وتكبيرا باسم الله العلي الأعلى.
وقد فجئه الحق وهو بغار حراء في يوم الاثنين لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فيومئذ نزل أول القرآن، إذ قال له الملك:(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) فرجع بها رسول الله خلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة واخبرها الخبر:(لقد خشيت على نفسي! فقالت خديجة: (كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، أنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق) فكأن كما قالت رضى الله عنها فلم يخزه ربه الذي أرسله بالحق ليهدي الناس إلى صراط مستقيم وذلك أول الإسلام.
ثم كانت سنة ثنتين من الهجرة ففي يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى وهي الوقعة العظيمة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل، واعز الإسلام ودمغ الكفر وأهله وكانت فيصلا في تاريخ الإسلام. ويومئذ حقق الله للمؤمنين ما وعدهم إذ يقول:(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وأن كثيرا من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر القوم الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون) ثم قال الله تعالي بمن على المؤمنين ما أكرمهم به: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن