زفرت جهنم زفرتها السنوية كما تزعم الأساطير، فعقدت على وجهي (الوادي) غشاء من سموم ودخن؛ فالطبيعة في غلافها الناري مكبوتة، والأرض من حماها الصلب مسبوتة، والناس من إلحاح القيظ متبلدون هامدون يقابلون لفحه بجلد المضطر، ويعالجون برحه بصبر الشهيد! ولكن الجلد ينماع فهو عرق يقطر والصبر يرفض فهو بخار يتصاعد، وبين هذا التقطير وذلك التصعيد نفس تذوب، وجسم يذبل، وعزم يسرق، وفكر يضمحل؛ فليت شعري ماذا عسى أن يعمل من اضطر إلى أن يعمل؟ هذا مكتب الأديب الصحفي يشع الوهج كأتون الفرن، وينفث الضيق كحجرة السجن، ويبعث القلق كغرفة الانتظار؛ وهو مع ذلك مقضي عليه أن يفكر ويعبر، ويرتب ويهذب، ويقابل ويجادل، حتى يهن عصبه، وينقطع سببه، فيعود إلى منزله المعلق في الجو الأغبر على زحمة الشارع وضوضاء العامة، يطلب الهدوء فلا يجده، ويلتمس النوم فلا يناله!
ليس له وا أسفاه قصر يبسم بالنعيم، وينسم بالعطر، ويشرق بالجمال،
ويموج بالزهر، وتطري بالماء، ويتمطى في الظل، ويتبسط بالسعة،
ويسجوا بالخفض، ويغرق في السكون، ويضرب حواليه نطاقاً سحرياً
من الأحلام واللذة، فيعود به من وقدة الجو، ويلوذ به من مشقة العمل
وليس له وا أسفاه يعبر عليه ثبج البحر، ويرد به مدن الماء، ويبلغ فوقه قرى الجبل، فيسرى عن نفسه بعض عناء العام وبلاء الأيام بما يرى من مفاتن الطبيعة على الربى، ومجالي الفردوس فوق السهول، ومباهج المدنية على الشواطئ
وليس له وا أسفاه ما للأديب الموظف من المؤتمرات العلمية، والسياحات التعليمية، يغشاه في منازه أوربا، أو خمائل لبنان، فينال من زهرة الدنيا ومتعة العيش على حساب الدولة وعلى حب العلم
الطالب يعود في العطلة إلى الريف، والموظف الصغير يذهب في الإجازة إلى المصيف، والموظف الكبير يجد من مرتبه فضلاً يشتري به السياحة والراحة والبهجة، والموظف الأكبر يجثم نفسه الكبرى (خدمة) للحكومة في (الخارج)، فيؤديها على أتمها نائماً فوق صدور الأماني، حالماً على هدهدة الأغاني، هائماً وراء الخدمة المنشودة في أودية الشعر