للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[استقبال رمضان]

أذيعت من القاهرة في مساء يوم الثلاثاء الماضي أول رمضان

في هذا اليوم المبارك، استقبل المسلمون في أقطار الأرض شهرهم العظيم رمضان. استقبلوه بعد أحد عشر شهراً قضوها في صراع المادة وجهاد العيش، تكدر فيها القلب، وتبلد الحس، وتلوث الضمير. فهو يجلو صدورهم بالذكر، ويطهر نفوسهم بالعبادة، ويزود قلوبهم من قوى الجمال والحق والخير بما يمسكها العام كله على فتنة الدنيا ومحنة الناس. وإذا كان المرهفون قد استقبلوا في أبريل ربيع الحواس، والمترفون قد استقبلوا في يونيو ربيع الغرائز، فإن المؤمنين استقبلوا في رمضان ربيع الأرواح. وربيع الحواس في الرياض زهور وعطور وفتنة؛ وربيع الغرائز على الشواطئ فجور وغرور ولذة؛ وربيع الأرواح في المساجد صيام وقيام ونسك. ولذلك كان رمضان في الشرع الإلهي طهوراً من رجس العام، وهدنة في حرب القوت، وروحاً في مادية الحياة.

يستقبل المسلمون في رمضان ذكريين جليلتين لحادثتين خطيرتين كان لأولاهما أكبر الفضل في تقدم الإنسانية، وكان لأخراهما أقوى الأثر في نجاح الدعوة الإسلامية: ذكرى نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، وذكرى انتصار المسلمين في غزوة بدر.

كان نزول القرآن في رمضان فرقاناً بين عهدين متغايرين: عهد ذل فيه الإنسان حتى عبد الحجر، وضل فيه العقل حتى استحب العمى، وفجر فيه الطغيان حتى أنكر الإنسانية؛ وعهد تدارك الله فيه عباده بلطفه، فهدى بنور دينه ضلال الفكر، وأقام بدستور شرعه ميزان العدل، ورفع بسلطان خلافته معنى الإحسان وكانت معركة بدر في رمضان حكماً قاطعاً من أحكام القدر، غير مجرى التاريخ، وعدّل وجهة الدنيا، ومكن للعرب في دورهم أن يبلغوا رسالة الله، ويؤدوا أمانة الحضارة، ويصلوا ما انقطع من سلسلة العلم. كان المسلمون في بدر على ضرهم وفقرهم ثلث المشركين. وكان المشركون على كثرتهم وعدتهم صفوة قريش. فموقف الإسلام من الشرك كان يومئذ موقف محنة. كان بين العدوتين في بدر مفرق الطريق، فإما أن يقود محمد زمام البشرية في سبيل الله فتنجو، وإما أن يردها أبو جهل إلى مجاهل التيه والضلال فتهلك. وقفت مدنية الإنسان بأديانها وعلومها وراء محمد على القليب، ووقفت همجية الحيوان بأصنامها وأوهامها وراء أبي جهل على الكثيب. فكان طريق وعقبة، ونور وظلمة، وإله وشيطان؛ فإما أن يتمزق تراث الإنسانية

<<  <  ج:
ص:  >  >>