على هذا الصخر، ويتبدد نور الله في هذا القفر، وإما أن تتم المعجزة فتفيض الحياة على الناس من هذه البئر، ويتصل الماضي بالمستقبل من هذه السبيل، ويبدأ التاريخ عهده الجديد بهذه الموقعة. ولقد أراد الله أن تتم للمعجزة فانتصر ثلاثمائة مسلم على قرابة ألف مشرك.
ويستقبل المسلمون في رمضان ثلاثين عيداً من أعياد القلب والروح، تفيض أيامها بالسرور، وتشرق لياليها بالنور، وتفتر مجالسها بالأنس. ففي المدن يغمر الصائمين فيض من الشعور الديني اللطيف يجعلهم بين صحوة القلب ونشوة الجسد في حال استغراق في الله، يتأملون أكثر مما يعملون، ويستمعون أكثر مما يتكلمون. فإذا أمسى المساء وفرغوا من الطعام انتشروا في المدينة، بالبهجة والزينة؛ فالرجال يحضرون محافل القرآن أو السمر في البيوت أو في المنتديات؛ والنساء يوزعن الوداد على منازل القريبات والصديقات؛ والأطفال يفرحون بأناشيدهم ومصابيحهم الميادين والطرقات، والدور الباقية على العهد تتقرب إلى الله بالذكر والصدقات، والمساجد المقفرة طول العام تعج بالوعظ والصلوات، والمآذن الحالية بالمصابيح، الشادية بالتسبيح، ترسل في أعماق الأبد نور الله وكلمته.
وفي القرى يرجع الفلاح في رمضان نقيا كقطرة المزن، طاهراً كفطرة الوليد، فلا يقتل ولا يسرق ولا يشهد الزور ولا يقول الهجر ولا يأتي المنكر. ثم تعتريه حال من الصوفية الشاعرة فيعف لسانه ويخشع قلبه وتلين يده، فلا تسمع منه لغواً في حديث، ولا عنفاً في جدل، ولا بغياً في خصومة، فإذا أذهله الغضب فرفع صوته ندم عجلان واستغفر وقال: الله إني صائم! وما أجمل أن ترى فانك الأمس وقد أصبح ناسك اليوم يمشي من البيت إلى المسجد في ثوبه النظيف وئيد الخطو، غضيض الطرف، لا تترك السبحة، ولا يفتر عن التسبيح لسانه. حتى إذا قضيت صلاة العصر جلسوا على المصاطب يستمعون القصص أو الوعظ إلى أن تؤذن الشمس بالمغيب، فيمدوا الموائد في الطريق أمام بيوتهم ويدعوا إليها عابري السبيل وطالبي الصدقة؛ ثم لا يلبث الإخاء المحض أن يجعل الموائد المتعددة مائدة واحدة، يصيب منها من يشاء ما يشاء.
ويستقبل القاهريون في رمضان مظهراً قومياً رائعاً يعيد إلى القاهرة عز القرون الماضية، فيصبغ لونها الأوربي الحائل بصبغة الشرق الجميلة، ويرفع صوتها الخافت بشعائر الصوم الجليلة، ويبرز شخصيتها الضائعة في زحمة الأجانب بالمظاهر الرسمية للحكومة، والتقاليد