قابل المتأدبون في العالم العربي نعي الدكتور زكي مبارك بمرارة لاذعة، فقد سمعوا قلمه البليغ منذ أربعين عاما يرن في مختلف الصحف، فيثير العواصف الهوج ناقدا مصاولا، ويرسل النغم العذب شاعراً ملهما، ويتابع الأحداث الأدبية والاجتماعية مؤرخاً فاحصاً، ويدبج الأبحاث العلمية والفكرية مؤلفا باحثا، ثم شاءت طبيعته أن يترك جهاده الدائب في دنيا الأدب والفكر، ويستريح بعض السنوات مما كابده في نضاله الذهني، حتى أدركه الموت في زلة قدم شجت رأسه ومزقت أعصابه، فطارت روحه إلى السماء تاركة وراءها عبرات تترقرق في محاجر الأدباء، وزفرات تتصاعد من صدور تلاميذه وزملائه على السواء.
ولقد بدأ الدكتور حياته - كأكثر أدباء عصره - طالبا بالأزهر الشريف، وكانت لديه حافظة قوية ساعدته على استيعاب كثير من روائع الشعر العربي في سن مبكرة , ووجد الأستاذ المرصفي مولعا بالأدب والشعر بين أساتذة الأزهر فلازمه دروسه، ونقل أبحاثه في أوراقه، وصاحبه في سمره ولهوه وجده وشغله، وجعل يعرض عليه ما تجود به قريحته الناشئة من نظم ساذج فيفسح له مجال التجويد والإبداع بما يلقنه من توجيه وتثقيف، وقد بدأ الطالب الأزهري يتصل بالصحف، وينشر إلى جانب قصائده التقليدية فصولا إنشائية يبذل في تسطيرها ما يملك من جهد وإتقان، ودفعه طموحه إلى دراسة اللغة الفرنسية في فترات يختلها من حياته الأزهرية، ثم دفعته عزيمته إلى الجامعة المصرية سنة ١٩١٦ فأصبح طالبا يتميز بين طلابها بالنشاط والكفاح، ووجد بين أساتذتها شيخا يشبه أستاذه المرصفي في تعلقه بالأدب وكلفه بالنقد، فأخذ يستمع إلى محاضراته، ويدون في صحائفه جميع ما يصله من أستاذه الكبير محمد المهدي، وقد عكف في هذا الطور من حياته على مختارات البارودي، فحفظ أكثر ما بها من قصائد، ومالت به عواطفه إلى الغزل والنسيب فاستظهر رقائق العباس بن الأحنف، وحجازيات الشريف، وروائع مهيار وجميع ما نقله البارودي عن الشريف وابن سنان والتهامي، وقد خرج من ذلك كله بثروة طائلة في الذوق