للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[تأملات:]

من الساخر!؟

للأستاذ عبد العزيز الكرداني

ذات يوم. . . ركبت ترام (المترو) في رفقة صديق له مثل اتجاهاتي ونظراتي وتأملاتي في الناس وفي الحياة. وكان الوقت مساء. . . وكانت الأضواء الباهتة تترنح سكرى في سدفة الليل. . . وكانت النسمات لينة تنفذ إلى الرئتين في رفق ودعة، فتستجيش انفعالات وخواطر شتى!

ولما بلغنا في الطريق إلى منتصفه، أشار صديقي خفية إلى رجل يجلس قبالتنا. . وهمس في أذني قائلاً: (انظر. .!)

. . . ونظرت. . فإذا شيخ هِمٌّ أرسل لحيته الكثة إرسالاً فطرياً مستبشعاً، فبدت كأنها دغل كثيف منّن. وكان الشيخ في أسماله الحائلة الرثة، ووجهه القذر المتغضن، وفمه الفاغر، ونظراته الشاخصة، قابعاً في غفلة وتلبد أشبه ما يكون بركام مطَّرح من قذر وعفونات!

قال صديقي بعد فترة من النظر المتأمل إلى وجه هذا المسخ الآدمي (أترى إلى هذا (الشئ!)؟! أتراه يكون (إنساناً)؟!)

. . قالها صديقي، ولم يكن يرمي إلى الزراية بهذا التعس. . ولا يكاد يقصد إلى اصطناع السخر منه. . وكل ما كان يبتغيه هو أن يفصح - في صدق - عن حقيقة تجسمت أمام ناظريه!. . . وافترقنا. . وطوت الذاكرة هذا المشهد فيما طوته من مشاهد، وإن تحصِّل في نفسي راسب منه، لم يكن من اليسر أن يقتلعه النسيان ومرور الأيام من واعيتي الباطنة. . . حتى كان يوم من أيام هذا الشتاء الجهم لقيت فيه صديقي. . فتذاكرنا سوياً هذا المشهد، واسترجعنا في خيالنا صورة ذلك الشيخ. ثم خلفت صديقي، ومضيت إلى داري. وهنالك - حين خلوت إلى نفسي - وجدتني أردد هذه العباْرة: (من. . من الساخر؟!)؛ ثم وجدت الذهن ينبثق عن خواطر. . رأيت أن أسجلها في هذه القطعة الفنية، التي أقدمها لصديقي. . شريكي في النظر والتأثر - هدية متواضعة. . طالباً منه أن يعمل الفكر والحس والشعور في مضمونها وفحواها. . ثم أسأله - بعد ذلك - أن يتحرى أو يحاول مطابقة الراسب المتحصل في نفسه بتأثير هذا المشهد، بالراسب الذي أوحى إلى هذا الكلام:

<<  <  ج:
ص:  >  >>