ما زلنا هنا في ابن رشد لم نفارق أرسطو، فابن رشد صورة من أر سطو، أو قل: هو الصورة الإسلامية لأر سطو. وكم ذا لأر سطا ليس في فلسفات العصر الوسيط من صور! فان الفيلسوف الذي أتينا على دراسة فصل من علم واحد من مذهبه في مقالاتنا السابقة قد كان مارداً جباراً جثم بسطوته وسلطاته على الفكر الإنساني حتى مطلع النهضة الأوربية الحديثة: عكف الشراح على مذهبه يدرسونه ويفسرونه ويصنفون كتبه، وأقبل عليه رجال الدين والمفكرون من مسيحيين ومسلمين ويهود يؤيدون بع عقائدهم، فنشأت الفلسفات المسيحية الإسلامية واليهودية على الترتيب. وبقدر ما كان أر سطو يبدو لرجال هذه الأديان لأول وهلة مادياً وملحداً تحرم دراسة فلسفته، لا يلبث هؤلاء الجامدون المتزمتون أن ينبذوا الحبال الأفلاطوني إلى ما في مذهب أر سطو من منطق وانسجام وتوافق، فيحل أر سطو من التفكير إذن أرفع محل.
وهكذا ترى أن أفلاطون وأر سطو كانا قطبي التفكير في كل فلسفة دينية، وأن مثالية هذا وروحيته، ثم واقعية ذاك وماديته، كانت بمثابة قرني الإحراج لا يذهب المفكرون إلى أحدهما غلا ليرتدوا إلى الآخر. ولن تجد بين مفكري العصور الوسطى وفلاسفة الأديان إلا من هو أفلاطوني أو أرسطي أو موفق بين الاثنين ويتفاوت فهم رجال العصور الوسطى لفلسفة كلا الرجلين ومدى نفوذهم إلى حقيقتها. وكثيراً ما أدخل الإسلاميون عناصر غريبة على فلسفة أحدهما أو الآخر، أو أساءوا له ونسبوا إليه ما لم يقل به ولكن ابن رشد يمتاز من بين الإسلاميين جميعاً بأنه خير من فهم أر سطو وشرحه ونقله إلى الغرب حتى ليسمونه الشارح الأعظم لأنه هو الذي لعب أخطر دور في ربط الثقافة الإنسانية وإكمال دائرة الفكر البشري يرد التراث اليوناني إلى أوربا الوسطى قبيل نهضتها؛ فإن شروحه لكتب أر سطو قد نقلت إلى اللاتينية وهي حينئذ لغة العلم والجامعات. وتولى نشرها ودراستها وإذاعتها خصوصاً فلاسفة اليهود.
وتعلمون أن الفلسفة إذ نشأت في بلاد اليونان بمعناها الحقيقي، وما كانت تشتمل عليه بلاد