اليونان إذ ذاك من أوضاع جغرافية واسعة تشمل هذا الجانب من البحر المتوسط كله تقريباً قد ورثها الشرق المسيحي بعد إذا استقرت الديانة المسيحية، فالشرق الإسلامي بعد إذ اتسعت رقعة الحضارة الإسلامية. وتعلمون كذلك أن رقي الفلسفة في كل من الشرقيين إنما كان صدى للتوسع الجغرافي والرقي الحضاري، وما يتبع ذلك من تشجيع للعلم والثقافة وحث على ترجمة التراث اليوناني بما اشتمل عليه من حكمة وطب وفن وفلسفة، فكانت الفلسفة تخضب وتزهر حيث توجد البيئة الصالحة للنمو والازدهار، وحيث يكون التشجيع والمثوبة من جانب ذوي السلطان، فإذا أصاب هؤلاء عقم التفكير وضيق الأفق وجل سخطهم على الفلسفة وإيذاؤهم للفلاسفة، كان على الفلسفة إذن أن تهاجر وتنزح. وكما أن الدولة الأموية العربية حين غلبها العباسيون وشتتوا أصحابهم قد هاجرت إلى الأندلس، كذلك كانت هجرة روحية أخرى للفسلفة الإسلامية إثر اضطهادها وتكفير أصحابها في الشرق العربي، وعلى أنقاض حضارة المشرق الثقافية إذن قامت حضارة أدبية وسياسية وفلسفية في المغرب، وبمعنى أدق في الأندلس، هي، مهما يكن من أمرها صورة مصغرة من حضارة الشرق، ولكنها متشابهة من ناحية وبسمات وخصائص مميزة من ناحية أخرى.
كانت متشابهة من حيث أنها قد اعتمدت في أساسها على ما كان ينقل أهل تلك البلاد من علوم الشرق سواء بالرحلة إليه والتعلم على أشهر علمائه وبجمع تراثه ونقله ونسخه ثم الشروع في التفلسف يعد مرحلة التمهيد والدرس هذه. وآية ذلك تدرج فلاسفة الغرب في تقديرهم لأر سطو متأخرين كما يمثلهم ابن باجة فابن طفيل فابن رشد، كتدرج فلاسفة الشرق الكندي والفارابي وابن سينا، إلا أنه يجب أن نقول إن ابن رشد كان أكثر فلاسفة المشرق والمغرب معرفة بأر سطو وفهماً وتقديراً له، وذلك لأن البيئة الأندلسية قد خلت من خلاقات الشرق وجدله وعقمه كما يظهر في أشعاره وموشحاته ذاتها في ميزان الأدب، فجاءت فلسفة ابن رشد أرسططالية خالصة من ناحية، ودينية عقلية من ناحية أخرى، وذلك هو الجانب المزدوج الذي يجب أن تنظروا لابن رشد من خلاله، فهو من ناحية ينشر ويلخص ويشرح الكثير من كتب أر سطو والفلاسفة المشائين من أتباعه وغيرهم من الأطباء والمتكلمين. . . الخ كما تجدون في ثبت كتبه التي ورد ذكرها بمقدمة كتابه الذي تدرسونه، ومن ناحية أخرى يكتب في علم التوحيد والعقائد؛ أو ما يسميه فلاسفة المسلمين