للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[حرية الرأي]

في مدى العوامل غير الشعورية

للأستاذ حسين الظريفي

إن حرية الرأي لا تتمثل في أن لنا أن نختار فيما نفكر وفي طريقة التفكير وفيما نصل أليه من مبدأ وغاية، ثم نقف عند هذا المرتفع من الحرية لا نتقدم. وانما هناك شيء يسبق الاختيار، هو أن نكون بمعزل عن التأثر بما ورثنا وبما حرثنا حتى إذا تلقينا الفكرة من غيرنا أو من عند أنفسنا بصفاء لا يشوبه كدر كان من حقنا أن ندعها أو نصدع بها، وتلك هي حرية الرأي في شقيها المتلازمين.

إذا كان من حق الباحث أن يكون حر الاختيار تجاه أية فكرة تعن له من محيط نفسه أو من الخارج، فأن من حق تلك الفكرة ألا تنظر بالعين الملونة بأصباغ الماضي القريب والبعيد، وما قيمة الخيرة في وسط غير مختار؟

لقد عرف التاريخ أناساً كان في وسعهم أن يأتوا ببعض الحقائق في بعض المواقف، وكان الظرف الذي عاشوا فيه يدعو إلى هذه الدعوة ويهيء لها، إلا أنهم كانوا من الخضوع لما عرفوا وألفوا بحيث تهيبوا التفكير بكل جديد فمروا بالحياة ولم تمر هي بهم. وعرف التاريخ أناساً جاؤوا بالفكرة الصالحة وبالمبدأ الصالح ثم قبروا وما جاؤوا به، ملومين غير مكرمين. ذلك لأن آراءهم لم تلمس إلا بيد كانت داخل قفاز مما وهب الماضي وكسب الحاضر، فتراءت بلون غير لونها وأعطى لها دون وزنها. وكذلك يفعل المقلدون.

وظاهر، أننا نرث ما ترك لنا الأولون من عقائد وتقاليد. . . بشيء كثير من التقديس. وكل فكرة جديدة تعن لنا أو تعرض علينا إنما يحدد لها أمد البقاء بالقياس إلى قوة اصطدامها بالقديم الموهوب أو المكسوب. أما التقديس فأنه وليد الغموض الذي يحيط بنشأة كل قديم، ولذلك نجد هذا التقديس يزداد أثراً في النفس وقوة على البقاء كلما كان أوغل في إبعاد الماضي السحيق وأبعد عن التعليل والتحليل. فالعقدة في تقديس الشيء هي فيما يعلو أصله من جهالة، فمتى ما استطعنا رد ذلك الشيء إلى أصله الذي صدر عنه، ظهر لنا تقديسه وكأنه ضرب من الوهم. وكان في استطاعتنا أن نأخذه بضروب النقد وبالأخذ والرد وأصبحنا أحراراً في موضوعه.

<<  <  ج:
ص:  >  >>