للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[وهذا كتاب. . .]

قال لي صديق منذ شهرين: أن العقاد يخرج كتاباً عن محمد. فقلت له: ذلك ما تتمناه الناس وتوقعناه نحن منذ أخذ العقاد يعالج بعض هذا الموضوع في (الرسالة). ولعل هذا الكتاب يكون الأول في بابه؛ لأن العقاد صاحب جد وصراحة؛ فهو لا يتكلف مالا يحسن، ولا يحسن ما لا يعتقد، ولا يعتقد ما لا يسوغ في المنطق. وإذا كان الذين كتبوا عن محمد إنما كتبوا للدين أو للدنيا أو للأدب أو للهوى، فإن العقاد لم يكتب إلا للعقل. وإذا استراب أكثر الناس بأكثر هذه الكتب لأن صاحب الدين موافق وصاحب الدنيا منافق وصاحب الأدب خدَّاع وصاحب الهوى متعصب، فإن القُراء على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم سيُخْلدون بثقتهم إلى العقاد لأنه سيكتب غير ما كتب هؤلاء جميعاً.

ثم قدرت في نفسي النواحي البكر التي سيطرقها العقاد من هذا العالم الأعظم فكأنما قدَّرت عن تلقين الغيب: قدَّرت أنه لن يكتب ترجمة ولا سيرة ولا قصة، لأن الناس في القديم والحديث، وفي الشرق وفي الغرب، لم يكتبوا غير ذلك؛ وذلك الذي كتبوه إنما كان مداره على الوحي والرسالة والمعجزة والدعوة، وإدراك العظمة أو العبقرية في هذه الأمور موقوف على الأيمان بها؛ فلو أن امرأً غير مسلم حاول أن يستشف من خلال ما ينكر من هذه الصور الإسلامية صورة محمد في نفسه، لما وجد فيما بقى على الهامش أو علِق بالإطار ما يقنعه بأن محمداً لو لم يكن أعظم الرسل بدينه، لكان أعظم الأبطال بخلقه.

فصورة محمد في نفسه هي الناحية التي طوّف حولها الرُّوَّاد ولم يدخلوا، وحوَّم فوقها الورَّاد ولم ينزلوا؛ وهي التي قدَّرتها على التخمين في خطة العقاد، ثم قرأتها على اليقين في (عبقرية محمد). وأشهد الله أني لو مضيت على المخيَّل فيما أكتب عن هذا الكتاب لما كذبني الضن، ولا أخطأني الصواب. ذلك لأن العقاد كاتب مؤمن بالعقل والرجولة؛ فإذا درسته أو قرأته على ضوء هذا الأيمان تكتشف لك عن منطق فحل لا يتناقض في الرأي ولا يتعثر في الأداء، ولا يتكثر باللغو، ولا ينزل عن طبقته حتى في المقاصد المبتذلة والمعاني المطروقة. وإيمانه بالعقل والرجولة هو الذي بعثه على أن يكتب كتابين في أدب ابن الرومي وفي سياسة سعد زغلول على كثرة الأدباء والساسة. فإذا كتب عن محمد فإنما يكتب بوحي هذا الإيمان عن عبقريته (بالمقدار الذي يدين به كل إنسان ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبِّت له الحب في قلب كل إنسان وليس في قلب المسلم وكفى)،

<<  <  ج:
ص:  >  >>