(وبالقياس الذي يفهمه المعاصرون، ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين)(ليقيم البرهان على أن محمداً عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميدان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية)
والحق الذي لا تجوَّز فيه أن كتاب (عبقرية محمد) هو التفسير الملهَم المحكم لقول الله تعالى لنبيه الكريم: (وأنك لعلى خلق عظيم). ولا يدهشنك أن أقول أن شهادة الله لرسوله بعظمة الخلق ظلت مجهولة الغور والمدى والدلالة في التفسير والتاريخ حتى جاء العقاد فصورها بأبعادها وحدودها وألوانها وسماتها كأنطق ما يكون المثال وأصدق ما تكون الحجة. هل تجد معنى من معاني الأخلاق فني في شرحه وتشريحه من الريق والمداد على طول القرون ما فني في معنى الصَداقة والصديق؟ ومع ذلك تقرأه في فصل (محمد الصديق) من كتاب العقاد فتجده معنى من معاني العظمة لم يتمثل في ذهن كاتب من قبل على هذه الصورة. أقرأ قوله على سبيل المثال: (. . . وهنا أيضاً قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات النادرة. فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار تجمع بين عظمة الحسد وعظمة الثروة وعظمة الرأي وعظمة الهمة؛ وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة - كما اثبت التاريخ من سيرة أبي بكر وعمر وخالد وأسامة وابن العاص والزبير وطلحة وسائر الصحابة الأولين - وربما عظم الرجل في مزية من المزايا فأحاط به الأصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية، كما أحاك الحكماء بسقراط القادة بنابليون بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بالمسيح عليه السلام وكلهم من معدن واحد وبيئة متقاربة. أما عظمة العظمات فهي تلك التي تجلب إليها الأصحاب النابغين من كل معدن ومن كل طراز؛ وهي التي يتقابل في حبها رجال بينهم من التفاوت مثل ما بين أبي بكر وعلي، وبين عمر وعثمان، وبين خالد ومعاذ، وبين أسامة وأبن العاص: كلهم عظيم، وكلهم مع ذلك مخالف في وصف العظمة لسواه.
تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق، وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم، والحيلة