عرضت في كلمة سابقة إلى تلك المعركة القائمة على صفحات الرسالة بين الأدباء حول أدب الأستاذ العقاد وأدب الأستاذ الرافعي رحمه الله؛ وسقت نقدي مساق من لا يبرئ نفسه مما تناول ذلك النقد من رأي واتجاه. فلم أخرج ذاتي من مجال النقد الذي سقت، معترفاً بان ذلك رجوع إلى الحق، واطمئنان إلى اتجاه جديد. ولكن هذا كله لم يرض الأديب سيد قطب فراح يتهكم ويسخر لا ليقول شيئاً جديداً ولا ليحاسب نفسه حساب الرجل القادر على كبح عواطفه ليجعل لعقله بعض القدرة على وزن الموقف بميزان لا يميل مع الهوى ولا ينساق مع الانفعال.
غير أن انفعال الأديب سيد قطب فيما كتب لم يكن ليجعل لعقله محلاً من الأثر في صوغ المعاني التي أرادها، فأخذ يرمي الجمل والكلم ذات اليمين وذات الشمال وعن أمام وعن خلف، شأن الثائر لا شأن الناقد؛ ثم خانته ثورته وخذله انفعاله، فاستيقظ عقله الباطن استيقاظة طفيفة، فرجع إلى قوله:(أنا)، كأنما طبيعته لم تقو على احتمال تلك الثورة ولم تستطع مقاومة ذلك الانفعال، فتبدت في ثوب ذي ألوان - ألقى إليه به قزح وأدبر وانصرف - كان أبين لون فيه ذلك اللون الذي تتخيله من قوله:
(وإننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب (أي الأستاذ العقاد) لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها)
إذن فالأديب سيد قطب أشد الناس فهماً لأدب الأستاذ العقاد، وليس ذلك فقط فهو أيضاً أشد الناس اقتناعاً بطريقته؛ وليس هذا ولا ذاك فقط، بل هو فوق هذا وفوق ذاك أقدر الناس على النسج على منوال الأستاذ العقاد. وإذن يكون الأديب سيد قطب، أديب طبعة ثانية؛ فهو باعترافه أديب، غير أنه عبارة عن نسخة من أديب آخر؛ أديب شخصية صورة من شخصية أديب آخر، وأدبه لوحة من أدب شخص آخر؛ أديب أسلوبه كالطبعة التي يتركها في الرمل قدم أديب آخر؛ أديب نفسيته وطبعه وذاتيته كالصورة الموهومة التي تلتقطها المصورة الضوئية وتطبعها على الرق المعروف، ولكنها صورة وهمية