وبعد فلقد فكرت طويلاً فيما عسى أن يكون موضوع كلمتي التي أتشرف بإلقائها بين يديكم من مناحي المتنبي، وعرضت مسائل البحث على خاطري، فكنت كلما فكرت في أمر وجدت له ما يبرر التوجه إليه، ووجدت مع ذلك من الشبهات ما يذودني عنه ويقطعني عن الاسترسال فيه، ولكني استطعت في آخر الأمر أن أقنع نفسي بأنني وافد الأزهر إليكم، وبأن الأزهر هو المعهد الذي يقوم على حراسة الدين أصوله وفروعه وعلى حياطة العربية وآدابها، وبأن بحث من يمثل الأزهر يجب أن يكون متصلاً بما يؤديه الأزهر للعالم من أمانة وما يضطلع به من أعباء، فاستقام عندي بعد هذه المقدمات أن يدور بحثي حول (دين المتنبي وأخلاقه وتنبئه وموقفه من النحاة)؛ وما كدت أنتهي من ذلك الأمر وأخلص من التفكير بهذه النتيجة حتى عرض لي أمر آخر ألقيت له بالي كله، وذلك الأمر هو المقصود بهذا المهرجان: أهو تقريظ المتنبي والثناء عليه، إما بإطرائه وكيل المديح له إن حقاً وإن باطلاً، وإما بإثارة الجميل من أخباره وشعره والإعراض عما عسى أن يغض من شأنه، أم هو بحث المتنبي من جميع وجوهه لوجه الحق من غير تعنت ولا تحيز؟ ولم أزل أفكر وأقدر للأمر حتى أيقنت أن هذا الحفل الذي يجمع أقطاب الأدباء والعلماء من كل قطر لا يمكن أن يستوي عنده الأمران فإن فرق ما بينهما أوضح من أن يدل عليه. وأي إنسان يستطيع أن ينسى الفرق بين حفل يجتمع لتكريم رجل وبين حفل يجتمع فيه صفوة الأدباء لدراسة رجل من رجال الأدب كان له أشياع وأعداء، وكان أشياعه ينشرون ممادحه ويذيعون فضائله ويتأولون له، وكان أعداؤه يملئون الأرض عجيجاً حوله ويرمونه بكل نقائص الإنسانية وهم لا يتورعون عن الكذب فيما يحدثون به من أخبار. أليس من أول ما يلزم الباحثين أن يعرضوا مقالات أعدائه وشيعته جميعاً على موازين البحث الصحيحة ليخلصوا بنتيجة ترضي العقل وتسد حاجة التفكير غير مبالين أن تكون هذه النتيجة مما يتمدح به أو مما يعده الناس نقصاً؟ فإن أنا عرضت عليكم شيئاً من هذا فهذه معذرتي وهذا رأيي، ولعلي لا أكون قد أبعدت أو جانبت الصواب فيما ذهبت إليه.