للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

دين المتنبي

أيها السادة! لقد مني أبو الطيب المتنبي بصنفين من الناس كان لكل واحد منهما من الأثر في حياته وفي أخباره التي نتوارثها إلى اليوم أقبح الأثر، ولولاهما لعاش الرجل عيشة هادئة، ولولاهما لكانت صحيفته في تاريخ الشعر والشعراء غير الصحيفة التي نقرؤها اليوم، ولولاهما لما وجد الباحث عنه هذا الغموض وهذا التناقض اللذين يعانيهما الآن. أما أحدهما فجماعة من ذوي المكانة بين الناس وأصحاب الجاه خافوه على أنفسهم ورهبوا أن تمتد مطامعه إلى مكانتهم وجاههم، أو طمعوا منه في أن يتملقهم ويرائيهم فيرد حضرتهم كما كان غيره يردها وكما كان هو يرد حضرة غيرهم من الملوك والأمراء فلم ينالوا ذاك منه، أو دفعت أبا الطيب نوازع نفسية فنال من أعراضهم فكانوا لأحد هذه الأسباب أولها كلها مجتمعة يحنقون عليه ويغضون من شأنه، وكانوا مع ذلك يؤلبون عليه الشعراء والعلماء لينالوا منه ويؤذوه في نفسه وفي شعره. وكان أبو الطيب يخشاهم ويرهب سلطانهم، بل لم يكن يخشاهم على نفسه فحسب، وإنما خشيهم على بعض أصدقائه ومن يشفق عليه، فقد حدث أبو إسحاق الصابئ قال: (راسلت أبا الطيب رحمه الله في أن يمدحني بقصيدتين وأعطيه خمسة آلاف درهم ووسطت بيني وبينه رجلاً من وجوه التجار، فقال: (قل له والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير (يعني أبا محمد المهلبي) وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال فأنا أجيبك إلى ما التمست وما أريد منك مالاً ولا عن شعري عوضاً)، فتنبهت على موضع الغلط، وعلمت أنه نصح فلم أعاوده اهـ). وأما الصنف الآخر فجماعة ممن كانوا يأملون أن تكون لهم المنزلة التي أدركها من الحظوة عند الملوك، وحرص كل واحد منهم أن يكون أبو الطيب من بطانته وتنافسهم في ذلك، فلما لم يبلغ هؤلاء المؤملون هذه الأمنية أكل الحقد عليه قلوبهم، واشتعلت جذوة الحسد بين جوانحهم، فتفننوا في القول عليه والدس له، ونشروا عنه من المقابح ما لم يكن يعلم من أمر أكثره شيئاً؛ ولم يكتفوا بأن يعملوا على إبعاده عن الملوك الذين كان التقرب إليهم منتهى آمالهم، بل حاولوا التفريق بينه وبين الجمهور، فجاءوه من ناحية الدين ثقة منهم أن للدين في نظر جمهرة الناس وعامتهم المنزلة الأولى، فإذا أتى

<<  <  ج:
ص:  >  >>