للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ليلى المريضة في العراق]

للدكتور زكي مبارك

- ١٦ -

خرجت من منزل ليلى نشوان، نشوان إلى حد الجنون. والمرء في العراق لا يكون إلا في حالين اثنين: حال تحدثه فيه النفس بالغرق في دجلة من الفرح، وحال تحدثه فيه النفس بالغرق في دجلة من الغيظ. فالمرء في العراق إما أن يكون سعيداً كل السعادة، وإما أن يكون شقياً كل الشقاء

وكذلك حال ليلاي، فهي قد ترق وتلطُف فأدخل دارها بُعَيْد الغروب ولا أخرج إلا قُبَيْل الشروق؛ وقد تقسو وتعنف فتطردني من دارها بلا ترفق ولا إشفاق

خرجت من منزل ليلى نشوان، فقد رضيتُ عنها ورضيت عني، ولكن الحادث الأخير ترك في القلب عقابيل، فأخذت احترس، وهل يتفق الحب والاحتراس؟

نعم يتفق الحب والاحتراس، ولكن يضيع النعيم فالمحب المحترس يثق بنفسه، ولكنه لا يثق بمن يحب. . . وليلى بدأت تعد ذنوبي ولكن من أي تاريخ؟ منذ اليوم الذي اطمأنت فيه إلى عودة العافية!

فمن أنا في دنياي؟ من أنا في دنياي؟

لقد كنت أرجو أن تعمى ليلى عن عيوبي، ولكن هكذا كنت في حياتي، فما أذكر أبداً أني عانيت الظلم إلا على أيدي ناس أحببتهم واستقتلت في الدفاع عنهم. كنت كالسيف يلقيه صاحبه بعد أن يفله القتال. كنت كالغصن المثمر يؤخذ للوقود بعد إنتهاب ما يحمل من ثمرات. كنت وكنت، فما أشقاني وما أعظم بلائي!

كذلك دار رأسي وأنا ماض إلى قطار البصرة. وما أدري كيف صاغ الله عقلي على هذه الصورة، فعقلي لا يغفو أبداً؛ وهو دائب على الدرس والتحليل، وليس من الزهو أن أذكر أن أعلم ما يساورني من المعضلات الفلسفية أهتدي إلى حله في أحلامي، والمسيو ماسينيون يذكر ذلك، فقد كانت لي معه مواقف يوم كنت تلميذه في باريس

أمسيت أحقد على ليلى، ولكن لا بأس، فقد وثقت بي، واطمأنت إلي، فأخذت تصادق من أصادق، وتعادي من أعادي؛ وليس ذلك بالقليل، فما الذي يمنع من أن أحتمل ما يثور في

<<  <  ج:
ص:  >  >>