لقد تحدثك نفسك يوماً بأن تتعرف الصفة التي تميّز مصر من بين بلاد العالم، والتي إذا أُطلقت انطلقت من فورها إليها دون أقطار الأرض جميعا. وإن مما لا يعتريه الشك أنه ما من أمة إلا ولها خاصية تستقل بها عن كل ما عداها من الأمم، لا يشركها فيها غيرها ولا يتصف بها سواها، وهذه الخاصية لقد تتصل بالأخلاق والعادات والتقاليد، ولقد تتصل بالتأريخ، ولقد تتعلق بالتصرف في سبب من أسباب الحياة، أو بالاستئثار والتبريز في فن من الفنون، أو بغير ذلك من وجوه الفروق المختلفة بين أصناف الناس فإذا قدر المستحيل، أو قدر النادر الذي يجاور المستحيل، ولم تتفرد إحدى الأمم بما يشخصها من تلك الأسباب الكثيرة، فلا أقل من أن تختص في طبيعة أرضها وسمائها، وجوهها ومناخها، بما يحقق لها هذا المعنى حتى يتسق لها هذا الوجود الخاص فلا تختلط بغيرها من العالمين. وتلك من سنن الكون التي لا ينشز عليها خلق من الكائنات أبدا!
ونعود فنفرض أنه لقد تحدثك نفسك بتعرف هده الخاصية التي تتفرد بها مصر دون سائر أمم الأرض. ولعل أول ما ينحط عليه ظنك أنها بلاد زراعية طوعاً لسخاء أرضها بألوان الغلات، ومهارة سواد سكانها في فنون الزراعة وفلح الأرض وحسن تعهدها، واستنباتها على خير الوجوه. إلى أن أهلها، في الجملة، لا يتكئون على سبب من أسباب العيش التي يتكئ عليها كثير غيرهم، كالتجارة، والصناعة، وصيد البحر أو البر، فإذا هي عالجت شيئاً من هذا فإنما تعالجه بالقدر الذي ينتظمها في مؤخرات الصفوف! إذا ميزتها بأنها أمة زراعية، فالأمم الزراعية في العالم كثير!
ثم إنها ليس لها حظ مذكور من علم، ولا من فن، ولا من قوة بدنية، ولا من امتياز في كفاية حربية، ولعل هذا يرجع إلى ظروفها التي لا خيار لها فيها لا إلى طبيعة أبنائها، فالمصريّ معروف بالشجاعة في الحرب، وطول الصبر فيها، وشدة الجلد عليها من قديم الزمان. ومهما يكن من شئ فليس لمصر الآن حظ مذكور في شيء من تلك الأشياء، فضلاً عن أن يكون لها به تفرّد واستئثار، بحيث إذا أطلقت صفته عرف الناس أن مصر هي المقصود به دون سائر البلاد.